Go Back   منتديات قرية فطيس > المنتديات الأدبية > القصص والحكايات
FAQ Community Calendar Today's Posts Search

Reply
 
Thread Tools Display Modes
Old 10-19-2011, 09:28 AM   #11
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

يحيي فضل الله
==============
كبي جزلان
==========
خطواته واسعة ، سريعة ، تشق ظلمة الليل ، لاتهتم مطلقا بكل مخاطر الطريق ، فارع القامة ، ضخم الجثة ، عار تماما ، لا يلبس حتي ما يستر العورة ، عار كالانتماء ، كما ولدته امه ، إعتاد كبي جزلان - هكذا كانوا ينادونه ، لم يشارك ابدا في إختيارات البشر لكل المسميات التي يطلقونها عليه - إعتاد كبي جزلان علي هذه الرحلة اليومية التي تبدأ في نهايات الليل و تنتهي في بواكير الصباح ، إنها رحلة موسمية ، تبدو خطوات كبي جزلان تواقع هذا الطريق المخيف حين تبدأ إجازات المدارس ، تلك المدارس التي علمته حب الرغيف ، مدارس ( كاتشا ) او ( كجه ) كما يقول سكان جبال النوبة الاصليين ، لاتعني تلك المدارس ب( كاتشا ) ، مدارس أسستها الارساليات المسيحية ، لا تعني بالنسبة له غير انها مكان يتواجد فيه الرغيف ، إن ضجة التلاميذ و الطلاب تشعره بالامان ، إن فكرة الامن العذائي لها ذلك المتسع من الاهنمام في عقل كبي جزلان ، خارج تلك النوايا المبرمجة التي جعلت الإرساليات تحقق طموحاتها المتعمدة في ان تكون تلك المنطقة التي تقع حنوب مدينة ( كادقلي ) ، منطقة ( كاتشا ) منطقة تلتحم فيها كل تناقضات حركة الفكر الانساني ، مدارس ذات بناء مدهش بالنسبة لسكان المنطقة ، أخذت تلك الجبال التي تحيط بالمدارس تقذف باصداء الاناشيد الي البعيد ، الي تلك الغابات و السهول ، الي أذان حيوانات المنطقة المتوحشة و المستانسة ، ضجة التلاميذ في حركتهم و سكونهم ، ألعابهم و مسامراتهم في الليالي المظلمة و المقمرة خارج عنابر الداخليات ، إن الظلام في تلك المنطقة له لون اكثف من حدود السواد ، لكن تبقي تلك المدارس بقع من الضوء يهتدي بها السائرون علي تلك الدروب الموحشة و النائية ، خارج احلام اولئك المدرسين ، خارج أرقهم الذي تصنعه ذكريات المدن التي أتوا منها ، خارج كل تلك الافعال التاريخية ، كان كبي جزلان يتعامل مع هذه المدارس بمنتهي التجريد ، لا تعني هذه المدارس بالنسبة اليه سوي الرغيف ، اصبح مذاق الرغيف علي لسانه نوع غريب من الإدمان ، لايبرح مطلقا مكانه الحميم امام مطابخ الداخليات ، يسمح لنفسه بالتجول حتي مباني السفرة - قاعة الطعام - ليس ابعد من ذلك بين المطبخ وقاعة الطعام ، كان يحس حين يري اولئك التلاميذ يتناولون طعامهم ، حين يري ذلك الرغيف المدور تمزقه الايدي و تلتهمه الافواه ، يحس ان فكرته عن هذا الشئ الغريب هو محور حركة الكون .
الطباخون و عمال المطبخ إعتادوا عليه ، اصبح من ضمن مسئولياتهم ، حاول مرة كبير الطباخين ان يبعده من المنطقة ، عن كمية الرغيف التي يلتهمها ، كان كبي جزلان هناك كما إعتاد ، وقف تلك الوقفة التي تشبه وقفة التماثيل ، وقف امام المطبخ ، كان ذلك في الصباح ، منع من ممارسة عشقه ، تحولت تلك الوقفة الي صخب عال جدا ، همهمات إحتجاج حيث انه لايستطيع مطلقا ان يختزن في عقله البسيط أي إشارات او علامات يمكن ان يقال عنها إنها لغة مشتركة بين البشر ، همهمات غريبة تحولت الي صراخ هستيري ، تحرر ذلك التمثال من جموده ، تحول كبي جزلان الي كتلة من الإنفعال اطاحت بكل الاشياء التي صادفته او حاولت ان تقف دونه و الرغيف ، قذف بكبير الطباخين علي اقرب صخرة علي ذلك الجبل ، قوة هائلة إقتلعت ابواب المطبخ ، هشمت الشبابيك ، حطم كبي جزلان اواني الطبخ ، هرسها مع ملاحظة انها من الالمنيوم لكنه اسنطاع ان يشكل بثورته العارمة اوضاعا و ملامح اخري لاي إناء مر به في طريقه ، كان يركض في دوائر متوترة و يصرخ ضد كل العالم الموجود بالمنطقة ، إمتدت ثورة كبي جزلان حتي وصلت الي الطابور الصباحي ، كان ناظر المدرسة يتحدث عن النظام كما كل يوم ، المدرسون في مكاتبهم يستعدون لبداية اليوم الدراسي ، التلاميذ يحاولون الهروب بشرودهم و همساتهم من خطبة الناظر المعتادة ، جاء كبي جزلان كما الإعصار ـ إقتحم الطابور ، يضرب كل من يصادفه ، هرج ، مرج ، تناثر التلاميذ في الفناء ، إختفي الناظر داخل مكتبه ، كبي جزلان يطارد التلاميذ في الفناء ، يضرب بكل قوة ، معركة لها ضحايا ، جرحي ، تلميذ كسرت يده ، بعضهم اغمي عليهم ، لا زالت ثورة كبي جزلان مستمرة ، هرول احد المدرسين الي حيث مكام الإنطلاقة ، عرف الامر ، اخذ معه اكثر من عشرة ارغفة و جاء الي الفناء ، يتابع الي درجة اللهث خطوات كبي جزلان الثائرة ، أخيرا إقترب منه ، لوح له بالارغفة ، همدت ثورة كبي جزلان رويدا رويدا ، إقترب من المدرس بحذر شديد ، خطف الارغفة من يده ، همهم ، صرخ بعنف ، إرتعش جسمه ، أخذ واحدة من الارغفة ، كومها في يده الضخمة ، رفع يده اليسري الي أعلي و كأنه يحيي الشمس ، مسح الرغيفة علي عرق إبطه الذي كان غزيرا جدا ، إلتهمها بعنف ، كأن كبي جزلان يأكل من عرق إبطيه
بعدها جاءت تعليمات من الناظر توصي بالإعتناء التام بمشروع كبي جزلان الغذائي ، بعدها اصبح واحدا من أهم مسئوليات الطباخين .
يخاف كبي جزلان من الاماكن الخالية ، يعرف تماما حين يختفي التلاميذ من المدارس انه سيواجه اياما صعبة وعصيبة ـ اياما يختفي فيها الرغيف ، في تلك الايام ، ايام الإجازات ، يكون كبي جزلان خارج حيويته ، متداخلا مع حزنه الابكم ، وقتها لاتجدي كل الصرخات ، كل الهمهمات ، يفقد تماما معني وجوده ، يواجه بذاكرته غير المعقدة تلك الابواب و الشبابيك المغلقة ، اغنام ترعي في فناء المدرسة ، الحشائش البرية تتطاول احيانا كثيرة علي سور المدارس ، خريف تصرخ فيه السماء برعودها و تشتعل ببروقها ، وحين ترعد السماء يصرخ كبي جزلان في وجهها و كأنه يحتج ضد الخريف ، الخريف يعني ان تقفل المدارس ، يختفي التلاميذ ، يرحلون الي حيث لايعلم ، يختفي تبعا لذلك الرغيف ، محور فكرة كبي جزلان عن الكون ، إجازة الخريف تمتد الي ستة اشهر لذا ان رحلات كبي جزلان ، تلك الرحلات التي تبدأ في نهايات الليل و تنتهي في الصباح لتبدأ من جديد في ظهيرة حارة ككل نهارات الخريف ، رحلات البحث عن رغيف ، عن ذلك المذاق ، مذاق يقاتل من اجله كبي جزلان الطبيعة بكل عناصرها .
خطواته واسعة تهزم ظلمة الليل ، تقوده لهفة مكثفة ، يتجه من ( كاتشا ) شمالا الي ( كادقلي ) ، يستطيع ان يهرب من كل الوحوش التي في الطريق ، عار كالإنتماء ، كما ولدته أمه ، يشق مهرولا غابات كثيفة ، تهرب من امامه حتي الشياطين ، لا يتوقف ابدا ، لايسمح لخطواته ان يصيبها التعب ، تجلده سياط من الامطار ، يهتدي بالبروق و يصرخ حين ترعد ، لكنه لايتوقف ابدا ، يخوض في وحول لزجة حافيا ، لا يلتفت حتي للاشواك التي تسكن قدميه ، يسبح متحديا تلك الخيران التي تندفع من الجبال ، لايهم ، حتي قوة الإندفاع يهزمها كبي جزلان في بحثه الوجودي عن ذلك المذاق ، عن تلك الرائحة التي تتفتح امامها كل مسامات حواسه الاكثر من خمس ، هذه المسافة التي تطويها خطوات كبي جزلان كانت لواري ( اب اربعة و الابيض ضميرك و السفنجة ) تقطعها في موسم الخريف ، موسم إجازات المدارس في اكثر من عشر ساعات و احيانا ايام بنهاراتها و لياليها بل في معطم الاحوال تتعطل هذه الحركة في الخريف ، لكن كبي جزلان لا يتعطل ابدا ، في نهايات كل ليل من ليالي هذه الشهور الستة ينطلق كبي جزلان الي( كادقلي) ، يصل في الصباح الباكر ، يقف امام فرن ( احمد حريقة ) ، يقث كتمثال ، ينظر الي طاولات الرغيف و هي تخرج من الفرن ، ملوثا بالطين و العرق ، درجة حرارة جسمه يمكنها ان تعادل حرارة الفرن الذي يخرج منه الرغيف ، تتساقط قطرات العرق من جسمه العاري تماما علي الارض ، إن كبي جزلان يمطر ايضا في كل خريف يختفي فيه التلاميذ من المدارس .
في بداية علاقته بأفران ( كادقلي ) تصرف بذلك الجنون الذي يصنعه الحرمان ، كان يهجم علي طاولات الرغيف بعنف غريب ، مداهمة يندر ان تجدها حتي عند اولئك الذين يؤمنون بالنضال المسلح ، ياصابعه العشرة يستطيع ان يكوم عددا من الارغفة ، خطف مرة طاولة كاملة و ركض بها هازما كل اللاحقين به ، إنطلق كما الإعصار و الطاولة تبدو إزاء جسمه الضخم اشبه بصندوق خشبي صغير ، تكررت هذه الافعال الجنونية حتي ان الافران غيرت مواعيدها بعد ان اكتشف ان إخفاءها لطاولات الرغيف لن تمنع كبي جزلان من الحصول عليها ، لاشئ يجدي مطلقا مع الطريقة التي يقتحم بها كبي جزلان ، إستقرت ممارسة كبي جزلان مع افران ( كادقلي ) بعد ان استطاع ( احمد حريقة ) ان يحصر كل تلك الثورة امام فرنه فقط ، رجل كريم استطاع ان يسمح بسماحة لذلك العملاق ، عاشق الرغيف ، ان يأخذ ما يريد و بدون اي عنف و بذلك استطاع ان يفدي اصحاب الافران الاخري .
يأتي كبي جزلان حاملا بين حناياه ذلك الإصرار العميق علي الهدف ، يقف ممطرا عرقه علي الارض ، ينتظر بلهفة تتجاوز منلوجات كل العشاق ، اول طاولة تخرج من الفرن يقتحمها ، يكور بيده الضخمة عددا من الارغفة ، يعصرها بأصابعه حتي تصبح كتلة واحدة متماسكة ، يرفع يده اليسري الي أعلي في أعظم تحية وثنية ، يمسح كتلة الرغيف علي عرق ابطيه و يلتهم و يلتهم و يلتهم .

  Reply With Quote
Old 10-19-2011, 09:30 AM   #12
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

احمد حريقة) اصبح يحاسب العاملين في الفرن علي التأخير قياسا علي وقفة كبي جزلان امام الفرن في كل صباح من صباحات خريف الشهور الستة .
علق احد ظرفاء المدينة علي رحلات كبي جزلان مقترحا ان يكتب علي جسده العاري هذه العبارة ( كاتشا كادقلي وبالعكس ) ، مجرد ما إنتهي كبي جزلان من مهمته التاريخية ذات المغزي الوجودي امام فرن ( احمد حريقة ) ضم الي صدره عددا من الارغفة و اتجهت خطواته الي نفس ذلك الطريق الذي مر به ليلا ، هذه المرة الرحلة نهارية ، نهار خريفي ساخن ، يرجع كبي جزلان الي ( كاتشا ) ، يعرق و تغسله الامطار في الطريق ، الشمس تجفف جسده العاري ، تهرب من امامه الوحوش علي الطريق ، يحاول بعضها الإعتداء عليه ، لكن ، الرغبة في الحياة ، في المزيد من الرغيف تهزم تلك المحاولات ، عادة ما يصل كبي جزلان الي (
كاتشا ) بين العصر والمغرب ، تواجهه المدارس فارغة. من حيوية التلاميذ ، ترعبه فكرة الاماكن الخالية ، يتجول داخل فناء المدارس ، يسترخي امام المطباخ ، يؤرقه ذلك البحث عن المذاق الذي يدمنه ، يحاور بصرخاته المحتجة امطار الليل اذا كانت السماء ممطرة ، أكثر ما يثير كراهية الخريف عنده اصوات الضفادع ، محصورا في فكرته الآسرة عن الرغيف اضاع كل تفاصيل علاقاته بسكان المنطقة ، اصبح لا يتعدي حدود المدارس ، هكذا هي رحلات كبي جزلان تبدأ في نهايات الليل ، تنتهي في بدايات الصباح لتبدأ رحلة العودة في نهار خريفي غائظ ليصل بين العصر و الغروب ، يسترخي في مكانه الحميم ، تستفزه الفراغات و تثيره اصوات الضفادع ليبدأ رحلة جديدة ، هكذا و لمده ستة اشهر هي إجازة المدارس في الخريف يكون كبي جزلان قد صارع فيها كل قوي الطبيعة ، تحدي كل صعاب الطريق ، تهرب منه الوحوش و يهرب منها ، يمطر عرقا كما تمطر سحابات الخريف ، الخريف ذلك المسئول المباشر عن حالة كون الاماكن خالية .
هكذا ، حتي جاء يوم ، تحرك فيه كبي جزلان في نهاية الليل ، إرتبك فرن (احمد حريقة) في ذلك الصباح و لم يكن كبي جزلان موجودا ، لم يأت هذا الصباح الي ( كادقلي ) ، هناك في ( كاتشا ) كانت الشمس خلف السحب الداكنة تمارس غروبها الحزين و هي تعرف ان كبي جزلان لم يأت من ( كادقلي ) ، البروق تضئ ظلمة الليل دون ان يلتمع بالاضواء جسد ذلك المارد المقاتل ، أرعدت السماء و لاحظت غياب تلك الصرخة المحتجة و لم تجد الضفادع من تثيره ياصواتها ، غاب كبي جزلان في تلك الرحلة الاخيرة مخلفا ذلك الفراغ في كل مكان كان يجب ان يكون فيه ، هكذا ، بين ( كاتشا ) و ( كادقلي ) ، في رحلته الوجودية ، رحلة البحث عن الرغيف ، كبي جزلان تلتهمه الوحوش

  Reply With Quote
Old 10-19-2011, 09:45 AM   #13
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default


يحيى فضل الله


قطة بيضاء، لا ليست بيضاء تماما، هناك بقع سوداء على فروها الناعم، الأبيض في كل مكان، محاصر أنا بالأبيض، تلال من الجليد متناثرة هنا وهناك، بيضاء عتبات البيوت وسقوفها، حتي الأشجار فقدت سطوتها الخضراء وثقلت أغصانها بالجليد، ليست كل الأشجار لان منها من يبس وتعري من خضرته وحدها شجرة عيد الميلاد من جادلت بخضرتها الدائمة هذا البياض الحتمي فمالت فروعها بثقل الجليد، كأنها تستعد لممارسة قداستها بتحمل هذا العبء، أتاوا، مدينة تعرف كيف تشهر كرنفالها الأبيض في الشتاء.

قطة جارتنا التي تجلس باسترخاء على عتبة البيت حينما ينتصف الليل، منتصفه تماما، جارتنا، لا أراها أبدا إلا في سياق هذا الزمن، منتصف الليل، أو بعده بقليل، يبدو لي ذلك لأنها تعمل في وردية ليلية لا تتيح لها أن تجلس على عتبة بيتها وباسترخاء أليف إلا في هذا الزمن تحديدا، هي تعمل في احدي المتاجر الكبرى، عادة ما تجلس على عتبة بيتها في الصيف ولكن في هذا الليل الشاتي الأبيض هي الآن تقف على عتبة بيتها وتركت شعرها الأشقر الغزير المصمم بفوضى متعمدة ان يمارس خبرته الحريفة مع برودة الطقس بينما يتولي البالطو الصوفي الأحمر مهام تدفئة جسدها الممشوق، لاحظت انه ممشوق في الصيف، الصيف في كندا له سطوته العارية، نزعت جارتي قفازها، قفاز اليد اليمني واحتفظت به على يدها اليسرى التي لم تنزع عنها قفازها، استندت بميلان جميل على درابزين حديدي على جانب من عتبة بيتها وكانت تدخن باسترخاء أليف.

منسحبا من ضجري، ملأت كاسي بعد أن انتشيت بعذوبة عبد العزيز داؤد الغنائية

أصلو الغزال في طبعو

من كل شئ هواب

كنت انوي الخروج، رغبة كثيفة في التدخين، حنين عارم يجتاحني وأنا أتأمل وبتذوق شجي ترانيم عود برعي محمد دفع الله وصوت أبو داؤد يلوم شادن العمراب.

تركت الباب الخلفي الذي يؤدي إلى الحوش الصغير مواربا وأنا أقف على العتبة ولكنه الحوش كان محتلا بالجليد، الأبيض في كل مكان، حتي الليل أبيض، بل داكن البياض، منهزما تجاه الأبيض، عبرت الصالة بعد أن أغلقت الباب الخلفي، خرجت أدخن على عتبة الباب الأمامي.

لم أجدها، جارتنا، لكني وجدتها، القطة، تلك المدللة، تجلس باسترخاء، استرخاء أليف، على عتبة البيت، باب البيت، بيت جارتنا، وحين كنت أحاول تفجير المشهد مستخرجا من فمي صفيرا منغما له من الحنين علائق، صفرت لها، القطة، فاجأتني، ناعمة جاءت، وحين مررت أصابعي على فروها الناعم أحسست بدفقة من الدفء لم تمنحني إياها كمية الملابس الكثيرة التي أرتديها من أخمص قدمي حتي الرأس، دفقة من دفء كثيف حميم.

فتحت جارتنا بابها، انحنت، غطي شعرها الأشقر وجهها فنفضته إلى الوراء، مسحت على فرو قطتها الناعم بأصابع يدها اليمني بينما أصابع اليسرى متجهة بالسيجارة إلى فمها، يبدو أنها نست أو تناست أن ترتدي قفازاتها.

صفرت مستدعيا لحن أغنية من عيونك يا غزالي لعثمان حسين، هرولت نحوي القطة، انحنيت ومررت أصابعي على فروها الناعم، امتصت جارتنا أنفاس من سيجارتها وحين انعكس ضوء سيارة مقتربة من الفسحة التي أمام البيوت على وجهها عبرت قطتها أصابعي وهرولت نحوها.

صفرت هذه المرة مستدعيا خضر بشير تحديدا أغنية الله فوق زوزو وكنت قد أطفأت سيجارتي، جاءتني القطة ومنحتني ذلك الدفء، جارتي أشعلت سيجارة أخرى، لاحظت ان السيجارة أيضا بيضاء ومن بين ل! هب الولاعة الرقيق لاحظت أنها نظرت إلى ووجهها يلوح بابتسامة واضحة وصفرت بفمها ما يشبه لدي صفارة الكاوبوي فهرولت نحوها القطة وحين وصلتها مررت أصابعها، أصابع اليسرى هذه المرة، على فروها الناعم.

أشعلت سيجارة أخرى كي ابرر وقفتي على عتبة الباب في هذا الطقس البارد جدا وصفرت بلحن الأماني العذبة لخليل إسماعيل فجاءتني القطة ناعمة وأخذت منها ما يكفي من دفء، وصفرت جارتنا بلحن ناعم أيضا فهرولت إليها القطة ومررت عليها أصابعها ومررت إلى ابتسامة أكثر وضوحا هذه المرة.

هكذا، اصفر بفمي، تأتيني القطة، امرر أصابعي على فروها، تصفر جارتي بفمها فتذهب إليها قطتها وتمرر عليها أصابعها.

اصفر أنا وتصفر هي والليل الأبيض شاهدا على هذه التفاصيل السرية والقطة تروح وتجئ حاملة لمسات أصابعي إلى جارتي وتعود إلى حاملة لمسات أصابعها فكان أن أشعلنا الكثير من السيجار واشتعل بيننا الكثيف من علائق الدفء.

حدثت جارتنا قطتها بانجليزية مسترخية، أيضا استرخاء أليف، أمرت جارتنا قطتها بالدخول، انسحبت القطة بنعومة عابرة لمسات أصابعي على فروها الناعم، لم تنس جارتنا أن تمنح فرو قطتها ربتة بأصابع سريعة اللمس وتمنت لها ليلة سعيدة بانجليزية مسترخية، لا مفر من انه استرخاء أليف.

القطة في الداخل وأنا وهي نحاول أن نجادل برودة هذا الخارج، الخارج الأبيض.

جليد كثير تساقط بعد أن دخلت جارتنا إلى الداخل، حبات الجليد البيضاء تمتص الضوء قبل سقوطها على الأرض التي تراكم عليها البياض، حركة الحبات البيضاء تغطي فضاء المشهد بتوتر كريستالي ناعم، من بين هذا الغشاء الأبيض لمحت القطة تجلس على النافذة والضوء على فروها الناعم يشف، لا ادري، لماذا خيل لي أن القطة قد أشعلت سيجارتها؟

خيل لي أنها وحيدة، القطة وحيدة وأنها تشتهي ملامسة أصابعي على فروها الناعم.

  Reply With Quote
Old 02-26-2012, 05:00 AM   #14
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

رصيد الذاكرة

يحي فضل الله

- \"آلو... يا مرحب\"
- \"لو سمحت – ده تلفون نور الدين\"
- \"أيوة – منو معاي؟\"
- \"أنا نهى\"
- \"نهى؟\"
- \"أيوه – نهى – نسيتني خلاص يا نور الدين؟\"
- \"نهى؟، نهى منو؟\"
- \"معقولة بس يا نور الدين – أنا نهى اسماعيل\"
- \"نهى اسماعيل؟\"
- \" يعني ما اتذكرتني يا نور الدين؟\"

- \"والله – أنا ما....\"
- \"حاول اتذكر، انا نهى، نهى اسماعيل\"
- \" والله طبعاً – انتي عارفة، أنا....\"
- \"يعني ما اتذكرتني يا نور الدين\"
- \"والله ما اتذكرتك\"
- \"يخسي عليك يا نور الدين، اصلو ما كنت قايلاك بتنساني\"
- \"معليش، حاولي ذكريني\"
- \"لا ما خلاص، الفيك اتعرفت\"
- \"دايرة الجد والله ما عرفتك\"
- \"لا خلاص معليش\".

واغلقت \"نهى اسماعيل\" الخط وتركت \"نور الدين\" معلقاً في المجهول وهو ينظر الى تلفونه ساهماً، كان يحاول ان يتذكر صاحبة هذا الصوت الساحر، أخذ \"نور الدين\" نفساً عميقاً من الشيشة التي امامه بينما ذاكرته تستعيد صوت \"نهى اسماعيل\" الجميل ذو البحة المثيرة – \"يخسي عليك، يا نور الدين، اصلو ما كنت قايلاك بتنساني\"، رجع نور الدين الى القائمة في جهازه، اختار منها المكالمات المستلمة، وجد الرقم في اول قائمة المكالمات المستلمة وضغط على زر الاتصال وسرعان ما سمع تلك البحة المثيرة.
- \"آي يا نور الدين ، اتذكرتني؟\"
- \"والله، اقول ليك شنو؟\"
- \"لا ما خلاص، انا آسفة للازعاج\"
- \"انتي زعلتي؟\"
- \" المابزعلني شنو؟\"
- \"اسمعي، انتي رقمي ده لقيتي وين؟\"
- \"حرام عليك يا نور الدين، لا، انت مسحتني خالص، الرقم بتاعك اخذتو منك انت شخصياً\".
- \" أنا شخصياً؟\"
- \" أيوه ، انت شخصياً\"
- \"متين؟\"
- \" اسمعني يا نور الدين، ياخي أنا آسفة للازعاج وخليك ناسي كده، سلام\".

وكركر صوت الشيشة بعصبية ملاحظة، و نور الدين من منخريه يخرج الدخان واصابعه متشبثة بجهاز التلفون. وتدور افكاره حول اين ومتى التقى بنهى اسماعيل، رجع الى قائمة المكالمات المستلمة واتصل بها مرة ثانية.

- \"اسمعيني يا نهى\"
- \"أيوه يا نور الدين\"
- \"كده انتي جهجهتيني خالص\"
- \"أنا؟، حرام عليك\"
- \"بس انت اديني اشارات عشان اتذكرك\"
- \" اشارات شنو يا نور الدين، انا ما كنت قايلة نفسي بتنسي بالسرعة دي، انت جرحتني يا نور الدين\"
- \" هي لكين ما تساعديني عشان اتذكرك\"
- \" لا ما خلاص، ما ضروري\"
- \"صحيح، انا ما اتذكرتك، لاكين انا عايز اتذكرك\"
- \" خلاص حاول تذكر براك واديك فرصة لحدي بكرة، بدق ليك في الوقت ده، اتذكرني وما تحاول تتصل بي، انا بتصل بيك\"

وتكاثف ارتباك نور الدين وحاول الاتصال بنهى اسماعيل مرات ومرات دون ان تستجيب، بعدها خرج من المقهى وهو يحاول عصر ذاكرته عله يتذكرها دون جدوى.
في مساء اليوم التالي، جاء الى المقهى كما في كل مساء وكان قد مضى صباح وظهيرة هذا اليوم وهو يحاول ان يتذكر من هي نهى اسماعيل، جلس في مكانه المعتاد وما ان حمل له الجرسون قهوته والشيشة حتى رن جرس هاتفه، ارتعش نور الدين وهو يخرج التلفون من جيبه.
- \"ألو .. مرحب\"
- \" ازيك يا نور الدين\"
- \" أهلاً يا نهى\"
- \"اها اتذكرتني؟\"
- \" حاولت، لكين\"
- \"ما قدرت، مش؟\"
- \" والله اقول ليك شنو\"
- \"لا خلاص – ما تقول، خليك ناسي كده\"
- \" اسمعيني يا نهى – يمكن لو شفتك اتذكرك\"
- \"اشك في ذلك\"
- \"ليه؟\"
- \"ما هو انت ما متذكر لا اسمي، لا صوتي\"
- \" عندك مانع اشوفك\"
- \"ما عندي مانع طبعاً\"
- \"خلاص خليني اشوفك\"
- \"الا بعد اسبوع\"
- \"ليه بعد اسبوع\"
- \"لانو عندي مشكلة ولازم احلها\"
- \"مشكلة؟، مشكلة شنو؟\"
- \"ما عشان كدة انا ضربت ليك\"
- \"المشكلة شنو؟\"
- \"أمي يا نور الدين\"
- \"امك مالا؟\"
- \"عيانة في المستشفى\"
- \"كفارة وربنا يلطف\"
- \" انا ضربت ليك، قلت يمكن تساعد، لكن للاسف لقيتك ما متذكرني حتى\"
- \"مافي مشكلة، ممكن اساعد\"
- \"تساعد كيف وانت ما متذكرني، سلام\"

كان صوت نهى اسماعيل باكياً حين اغلقت الخط وسرعان ما اتصل بها نور الدين والشفقة تحتل صوته..

- \"اسمعيني يا نهى – سيبك من اتذكرك ولا ما اتذكرك وخليني اساعدك، انت عايزة شنو بالضبط؟\"
- \"خليني يا نور الدين، احل مشكلتي براي لو سمحت\"
- \"يا نهى اسمعيني، انا ممكن...\"
- \"نور الدين انا ما عايزة ازعجك\"
- \"مافي ازعاج، انت عايزة شنو بالضبط؟\"
- \"انا عايز قروش اغطي بيها مصروفات المستشفى\"
- \"زي كم كدة؟\"
- \"خمسمائة جنيه\"
- \"مافي مشكلة، امك راقدة في ياتو مستشفى؟\"
- \"نحن في مستشفى الابيض\"
- \"خلاص انا حارسل ليك رصيد بي المبلغ ده\"

وداوم بعدها نور الدين في ارسال مبالغ اخرى من المال وداومت نهى اسماعيل في الاتصال به. وتطورت العلاقة بينهما حتى ان نور الدين اصبح يدعي انه تذكرها وكان صوتها ذو البحة المثيرة يحلق به في فضاءات رحبة وظل حلمه بان يلتقي بها حلم مركزي في حياته.

بعد اسبوع أو اكثر من الاتصالات المشبوبة بينه وبين نهى اسماعيل، بعد اسبوع أو اكثر من الارصدة المالية المحولة منه اليها، ها هو نور الدين يجلس في المقهى وهو ينتظر قدوم نهى اسماعيل التي عادت الى الخرطوم بعد ان تحسنت صحة والدتها.. وفي انتظاره لقدومها جاء صوتها من خلفه.

-\"ازيك يا نور الدين\"

هب نور الدين من جلسته كالملدوغ، وبدلاً من ان يجد نهى اسماعيل امامه وجد صديقه المشاكس \"عابدين\" الذي اخرج حالاً صوت نهى اسماعيل قائلاً:
-\"يخسي عليك يا نور الدين اصلو ما قايلاك بتنساني\"

. بينما كان عابدين يضحك بمتعة صرخ فيه نور الدين :

-\"شوف يا تافه، انا عايز منك اكثر من الفين جنيه ...!!!

  Reply With Quote
Old 03-11-2012, 05:57 AM   #15
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

يحى فضل الله

(( اشرعة المراكب فراشات بيضاء حالمة ترفرف علي صدر النيل المجري الاسطوري ، الحوش الرملي الواسع مزدحم ، سوق مكتظ ، وعاء ملئ بالعجين ، قرص حديد علي ثلاثة احجار تحيط بالحطب المشتعل ، المطبخ في اقصي الحوش ، الجدة ترقص حول البقرة مترنمة بإغنية الذبيحة ، اطباق الخزف علي الجدار الخارجي تعكس اتون اشعة الشمس و طعنات عين الحسود ، قري متناثرة علي شاطئ النيل تعلن ان ليلة العرس قد بدأت ، تغطس الشمس تماما خلف جبال الشط الغربي تسحب وراءها في هدوء الشفق الاحمر المنعكس علي اطراف أسطح الدور و شواشي الشجر و النخيل الرشيق ، رجال و نساء و اطفال اكثرهم علي الحمير و البعض مشاة و القليل علي الجمال الشاهقة ، الوقت بداية الفيضان ، آجمات من نبات ( الحلفا ) تشكلت من كثافتها في هيئات مخيفة ، مركب يكاد يطير مع تيار النيل المتدفق شمالا ، النساء الجالسات علي ظهور المراكب يرسلن الزغاريد من وسط النيل ، اقلية من الرجال و الشباب الصغير تفرقت جماعات في بيوت معينة و البعض منهم تحت الاشجار المتطرفة و البعض إفترش الرمال الناعمة اللامعة علي بعد نسبي بحيث يخفيهم الظلام و لا يخيفهم يدخنون البانجو و يشربون العرقي ، اريعة رجال سود شداد في رشاقة النخيل ، أصولهم إفريقية جنوبية واضحة في يد كل منهم دف رحب مشدود ساخن الجلد ، الرجال في جلاليب و عمائم بيضاء و النساء يرتدين الاثواب السودانية حريرية فضفاضة بالوان الطيف الفاقعة ، الجبال من بعيد تبدو كخيالات لدنة تثاقلت فارتاحت علي الارض ، ادغال النخيل و اشجار السنط و الكافور ، اشجار البرتقال و الليمون و كروم العنب ، كلها في غموض مستحب غافلة في نعاس يحرسها النيل الطويل ، نصف القمر ينحدر من برجه ، برودة خفيفة محببة هبطت علي الناس كغلالات رقيقة تمسح عرقهم و تهديء الاجساد ، يتصاعد صوت المؤذن من المئذنة الصغيرة حلوا ينساب مع تنفس الفجر الرطب ، الرجال يغطسون في النيل رغم خطورته فيستحمون و يتوضأون ، نصف القمر يتواري بلونه الشاحب ، نور ما بعد الفجر ينساب من لا مكان ينعش بنسماته الرطبة كل المكان ))

هذه الصور التعبيرية ذات التفاصيل العذبة التقطها من قصة ( غزلية القمر ) للكاتب النوبي المصري حجاج ادول ، إلتقطها و أنمنمها كسيناريو بديع يحتفي بتفاصيل المكان و الزمان دون ان اتقيد بمواضعها في نسيج هذه القصة كمدخل يعلن عن قدرة هذا الكاتب علي تفجير اللغة وعلي امتصاصها الدرامي لهذه المشاهد ذات الخصوصية ، الكاتب المسرحي و القصصي حجاج ادول صدرت له هذه الكتب ، ( ليالي المسك العتيقة ) مجموعة قصصية ، ( بكات الدم ) مجموعة قصصية ، ( ثنائية الكشر ) رواية ، ( ناس النهر ) مسرحية ، ( النزلاية ) مسرحية ، ( النوبة تتنفس تحت الماء ) أراء و حوارات

(( الي مطرب اهرامات الكرمل
و جنادل النيل الستة
الي فنان إفريقيا الابنوسية
و الخمرية
الي عاشق شعوبها و المحبوب منهم
الفنان محمد وردي
حبا و تقديرا ))
هكذا اهدي الكاتب القصصي و المسرحي النوبي المصري حجاج ادول مجموعته
القصصية الموسومة ب (غزلية القمر) الي الفنان الموسيقار محمد وردي ، صدرت هذه المجموعة في العام 1996م عن دار الحضارة للنشر وهذا الكتاب القصصي يضم ثلاث قصص طويلة ، الاولي بعنوان (هوجة ام حلمة, من وحي مصر العثمانية )، هكذا كتب حجاج ادول مانحا هذه القصة هذه المرجعية التاريخية ، اما القصتان فهما من وحي بلاد النوبة ، القصة الثانية بعنوان (زواج هجله ميرغني) والقصة الثالثة بعنوان (غزلبة القمر) ، غلاف الكتاب و الرسوم الداخلية للفنان التشكيلي المتميز حسان علي احمد والذي تزينت بلوحاته العديد من الاصدارات السودانية في الداخل و الخارج.
يصف الاديب الروائي المصري محمد مستجاب لغة حجاج ادول بإنها (( لغة تتوهج بالانفعال و الخشونة و المرونة ، تحمل الوجد و الحزن و الحب و الاغنيات بصفتها وسيلة جمالية تضئ شعاب النوبة القديمة ))
اما الدكتور محمود الربيعي يصف السرد عند حجاج ادول (( هو حين يسرد يخيل اليك احيانا انه يجدل ديباجة من الحرير و يخيل اليك احيانا اخري انه يحكي مباشرة من افواه الناس ، و هو حين يصف يخيل اليك احيانا انه حامل كاميرا يتنقل علي سطح المناظر بطريقة افقية متلاحقة ، ويخبل اليك احيانا اخري انه مبحر في التيارات السفلية( تيارات الشعور) يفحص الاصداف و اللالئ في بطء من خلال مجهر مضئ ))

الكاتب حجاج ادول لصيق بالثقافة السودانية ، متابع لتجلياتها الابداعية المختلفة لاسيما فهو ينتمي الي عوالم النوبة و هي عوالم مشتركة التفاصيل بين مصر و السودان ، حجاج ادول يحتفي بهذا الانتماء من خلال كتاباته واحلامه الثقافية والفنية ، روايته (ثنائية الكشر) وجدت بين سطورها مقطعا من اغنية الراحل المقيم مصطفي سيد احمد (عم عبد الرحيم و الموت مرتين ) للشاعر محمد الحسن سالم حميد ، في الاسكندريه حيث يقيم هذا الكاتب وعلي شارع (النبي دانيال) يتواجد هناك المركز او النادي النوبي حيث تعقد ندوة اسبوعية ثقافية ،استضافتني هذه الندوة و معي الصديق الشاعر و الكاتب المسرحي خطاب حسن احمد والموضوع مشروع مصطفي سيد احمد الغنائي ، كان ذلك في صيف 1997 م ، هناك وجدتني في عالم يخصني ، شباب من المصريين يرددون اغنيات مصطفي سيد احمد ، يسألون عن قصائد بعينها وهناك تعرفت علي حجاج ادول الذي هو احد اعمدة هذا المنتدي الاسبوعي ، الشاعر الاسكندراني خالد حجازي ، سمعت انه هاجر خارج مصر ، كتب مرثية لمصطفي سيد احمد و اعلن انه يحبه اكثر منا جميعا ، محافل السودان الثقافية في القاهرة يداوم حجاج ادول علي حضورها واخرها حيث التقيت به هناك في (ندوة الثقافة والتنمية) التي اقامها مركز الدراسات السودانية بدار الاوبرا في القاهرة ، مسرحيته ( ناس النهر ) من اخراج الاستاذ ناصر عبد المنعم تمثل مصر في مهرجان القاهرة التجريبي الدولي وتعرض قبل ذلك علي مسرح الطليعة و بين ممثليها الاخت (مهجة عبد الرحمن) التي زاملتني في قسم المسرح في السنة الاولي ثم عادت الي مصر وشاركت في عدد من الافلام اهمها فيلم (البيه البواب) للممثل المتميز الراحل المقيم احمد زكي .

( غزلية القمر) ، القصة التي حملت اسمها هذه المجموعة ، تحتفي في تفاصيلها بالفنان محمد وردي فهو شخصية محوربة في هذه القصة التي تتنوع تفاصيلها من خلال حفلة عرس في احدي قري النوبة (الجزيرة)
(( المركب تتهادي ، تأكدوا انها مركب وردي ، رنات الطنبورة بارعة ، انها طنبورة منيب رفيق وردي ، إقتربت المركب فبانت عمامة وردي فوق العمائم فوردي هو الطويل النحيل ، وثب الي البر فأخذوه بالاحضان ، إمتطوا المطايا و اسرعو فرسانا الي الساحة المنيرة ، هللت الاصوات و جلجلت له زغاريد النساء و الابكار( للي للي للي للي ) ، ثم صاح الجمع بالصلاة علي المصطفي ( صلاة عليك يا مهمد ) ينطلق خلفها الدوي الحي للبارود من البنادق ذات الروحين ( ديي ديي ديي ديي) ..... ))
نثر الكاتب حجاج ادول وبحرفية عالية شخصياته القصصية من خلال هذا الاحتفال و تتمركز هذه القصة علي اغنية (القمر بوبا) و ينثر الكاتب ايضا كلمات هذه الاغنية في جسد القصة التي اخذت عنوانها من الاغنية نفسها( غزلية القمر بوبا) دعوني انقل مدخل الكاتب لهذه القصة

)) واي انا المرضان من عصر
جابولي حكيم من مصر
قاللي يا زول مرضك كتر
سببه كان ام شلاخا خدر ))

مطرب النوبة المبدع محمد وردي باغنيته الساحرة (القمر بوبا) يزيد الشباب اشتعالا و شبقا ، يجنن الصبايا و يخبل الصبيات و كلما نبح الدم الساخن في الصبي غني معه هذه الاغنية وكلما سخن الحشا في جوف الصبية غنت معه نفس الاغنية
((القمر بوبا علي التقيل

بوبا عليك عليك تقيل
القمر بوبا ))

الآباء و الامهات يأكلهم القلق ، يلومون وردي ، اما كفانا متاعب شمسنا ؟ ،مبكرا تسخن خلايا اولادنا فتاتي إلينا انت لتحك الكبريت في ابدانهم المولولة فيتقلبوا مثل كيزان الذرة التي تشوي علي الجمر الاحمر المشتعل ، سامحك الله
يا وردي يا ابن فلانه .... ))

( يا وردي يا ابنة فلانه) ، هذه الجملة فيها حميمية نوبية صافية وقد تضرب في تاريخ بعيد من حيث ان عادة ان يسمي الذكور باسماء امهاتهم عادة قديمة يبدو ان وراءها تلك المكانة التي كانت تجدها المرأة في المجتمع النوبي و دوننا الحاكمات الكنداكات وفي هذه القصة ( غزلية القمر ) نجد ان شخصيات اساسية يتم تعريفها باسم الام مثل (سليم نفيسة ) و (بكري زهرة ) و ( شريف جراكوسه)

يوظف الكاتب وردي و اغنيته (القمر بوبا) في نسيج هذه القصة المحتشدة بالتفاصيل الاحتفالية واغنية (القمر بوبا) اظن انها من تراث الشايقية اعاد صياغة كلماتها الشاعر الراحل اسماعيل حسن ويغنيها بعذوبته المألوفة الفنان محمد وردي ، يقول الكاتب في سياق القصة )) و لما بزغ نجم المطرب المبدع محمد وردي وغني اغنية التراث العتيقة القمر بوبا مجددا فيها ، مضيفا علي فنها من فنه و صوته غنتها معه بلاد النوب كلها سودانية و مصرية

(( الصغيرون ام الجنا
يا كريم ربي تسلما
تبعد الشر من حلتا
جيد لي امها الولدتا
الفي جبل عرفات وضعتا
تسلم البطن الجابتا
دي ترباية حبوبتا
الصفار سابق خضرتا
معذوره امها كان دستا
وهلاك الناس كان شافتا
معذباني انا ود حلتا
يا قمر بوبا ))

اذكر في العام 1984 م وفي عمارات النصر بمدينة الجيزة بالقاهرة كنت اشاهد سهرة بعنوان( نجم علي الهواء) و كانت مع الممثل المصري صاحب الادوار المعقدة محيي اسماعيل وكان يتحدث عن تأثيرات فنية عليه في زمن الطفولة فذكر هذه الاغنية (القمر بوبا) و قال هي اغنية للفنان النوبي محمد وردي وعرفت وقتها ان الاغنية يمكنها ان تفعل ما تعجز عنه الكثير من نظريات التواصل
علي كل هذا هو الكاتب حجاج ادول يحتفي بهذا الفنان العظيم من خلال قصته (غزلية القمر)
(( يا وردي انت الموهوب المحبوب تغني لنا مرة بلسان النوب ، لسان عشائر الفيجكات و المتوكين و قبائل السكوت و المحس و مرة بلسان العرب , لغة الضاد , فانت يا وردي وردة نبتت علي ضفاف النوب الاربع ضفاف النيلين الابيض و الازرق ، طرحت عبقا مع رقرقة النهر علي حواف جزائر المجري الرزين ، فاح عطرها علي القري عند إلتقاء النيلين في المقرن و جزيرة توتي واخذت لكنتها الطرية الطيبة في حلفا و أرجيم ، فطرحت علي العلالي , في قصر أبريم , سمت مع شموخ قرية ابي سمبل التي جمعت بالذهبية النوبية نبرة تاري وتهادت علي سهول توماس و المالكي وتسكرت بنخيل عنيبة وتعطرت بكروم و نجوع الجنينة و امبركاب ، تضمخت من ورود سو- هيل و جندل سو- وين ، فأحلوت بحلاوة اسم قريتي توشكا وأدندان وحتي مقامات صوتك الصعبة من مقامات جنادل وسط النيل القوية المبللة ، حلقت يا وردي في سماء صفانا يلاحقك منيب عاشق الطنبورة و يسرع خلفك منير الولد النحبل النجيب)) .

هي تلك العذوبة النوبية بين الفنان محمد وردي و الكاتب حجاج ادول ، اعرف ان هذا الفنان المبدع محمد وردي له مقام اخر غير فن الغناء لدي اهالي النوبة فهوشاعر عظيم و كبير من شعراء هذه اللغة ، اللغة النوبية ، اذكر انني و بصلاتي مع مثقفين نوبيين مصريين عرفت ان الفنان الموسقار العظيم محمد عثمان وردي شاعر نوبي كبير ويعتبر حسب قول الكاتب حجاج ادول انه من الشعراء النوبيين الذين حافظوا علي ذاكرة اللغة النوبية وفي جلسة جمعتني بوردي في منزله بالمعادي جوار مركز سيد درويش قلت له ( يا استاذ انا عرفت انك من شعراء اللغة النوبية المهمين جدا فيا ريت لو إترجمت قصائدك النوبية للعربي عشان نحن نعرفك في الجانب المهم ده )

فأستعان علي وردي بتهكميته المعروفة و قال لي ( طيب النوبة عارفين ، انت مالك ؟ ) ، لم اكتف بتهكمية وردي ولكنني ظللت احرض مركز الدراسات النوبية بالقاهرة علي ترجمة اشعار الشاعر النوبي محمد عثمان وردي الي العربية , وليته انجز هذا الفعل الثقافي المهم وذلك تكثيفا لاهتمام المركز باللغة النوبية لاسيما ان الشعر هو ذاكرة اللغة .

yahia_elawad@yahoo.ca

  Reply With Quote
Reply


Posting Rules
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is On
Smilies are On
[IMG] code is On
HTML code is Off

Forum Jump


All times are GMT. The time now is 10:24 AM.


Copyright ©2000 - 2024, Futeis.com