Go Back   منتديات قرية فطيس > قسم العلوم والتكنلوجيا والفضائيات > المنتدي العلمي
FAQ Community Calendar Today's Posts Search

Reply
 
Thread Tools Display Modes
Old 02-14-2011, 01:22 PM   #1
 
Amhar

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 24
المشاركات : 409
بمعدل : 0.08



Amhar is offline
Default حياتنا النفسية - تابع

حياتنا النفسية تابع الموضوع السابقوإذاً ينبغي أن ننزع من أذهاننا تلك الصورة المثالية والأسطورية عن العبقري. فهو رجل عادي، بل وأقل من عادي في بعض تصرفاته إنه تافه جداً أحياناً. وربما كان هدف العبقري الدائم هو أن يصبح رجلاً عادياً كبقية البشر. ولكن بما أنه لايستطيع التوصل إلى ذلك فإنه يلجأ إلى الخلق والإبداع من أجل الحفاظ على توازنه. فإذا ما نجح في ذلك قال الناس عنه بأنا عبقري، وإذا ما فشل قالوا إنه مجنون. وهنا يكمن الفرق بين العبقرية والجنون.

لنتحدث الآن عن جان جاك روسو الذي يعتبر في الغرب نبي العصور الحديثة. أليس هو القائل: لو أردت أن أكون نبياً من كان سيمنعني؟! فقد كان مصابا بعقدة الاضطهاد أيضاً. وكان يعتقد أن هناك مؤامرة جهنمية تحاك ضده في كل مكان، وخصوصاً في الفترة الثانية من حياته. وكان يشك حتى بأصدقائه من أمثال ديادرو وهيوم وفولتير.. بل ويقال بأنه غير سكنه أكثر من مرة خوفاً من ملاحقة وهمية. وعندما سمع أحد الجيران بأن روسو هو الذي يسكن في الغرفة المجاورة له لم يكن يصدق. وقال: سأتعرف الآن على أكبر شخص في العالم ولكن روسو صده مباشرة متوهماً بأنه جاسوس ! فانكسر الرجل وحزن حزناً شديداً لأنه كان فقط يريد السلام عليه.. بالطبع فإن روسو لم يكن فقط ذلك، وإنما كان أيضاً إنساناً رحيماً شفوقاً يمتلئ بالعاطفة والحنان والمحبة للجنس البشري كله. ولكنه كان معقداً نفسياً لأسباب خاصة بحياته والمصاعب التي لاقاها والحسد الكبير الذي أثاره حوله بسبب عبقريته وشهرته الأسطورية. فالشهرة ليست خيراً كلها، وإنما تسبب متاعب كبيرة، بل ومخاطر جسيمة لأصحابها، وويل لمن يشتهر بدون إذن الناس ! لكأنه يسرق منهم شيئاً أو يعتدي عليهم.. ولكن قلق العباقرة يمكن أن يصل أحياناً إلى درجة الانهيار الكامل: أي الجنون الحقيقي. وهذا ما حصل للموسيقار روبيرت شومان الذي قال لأصدقائه عام 1854: " أريد أن أدخل المصح المقلي. لقد انتهيت. أنا لم أعد مسؤولاً عن تصرفاتي أرجوكم اسجنوني...".

وأما الشاعر جيرار دونرفال فقال لهم: " أخشى أن يضعوني في بيت العقلاء (أي في المصح العقلي ) والناس في الخارج كلهم مجانين !..." وأما أندريه بريتون الذي لم يكن مجنوناً إلا على الطريقة السوريالية فقد احتج على سجن العباقرة في المصحات العقلية وقال: إن كل هذا السجن تعسفي. لا أفهم كيف يحرمون شخصاً ما من حريته. لقد سجنوا ساد وسجنوا نيتشه، وسجنوا بودلير.." وكان يمكن أن يضيف: كونراد، وموباسان، وهولدرلين، وهمنجواي، وفان كوخ ، وألتوسير وغيرهم.. هذا القلق النفسي الرهيب الذي كان يعاني منه معظم الكتاب يتجلى أيضاً لدى بيير كامو. فقد صرح لأحد أصدقائه المقربين أكثر من مرة بأنه يشعر بأن الخواء الداخلي يكتسحه كلياً، وأنه ملي ء باليأس القاتل ولا يستبعد أن يلجأ للانتحار لحمل لمشكلته.. والواقع أنه مات في حادث سيارة على طريق " ليون - باريس"، فهل كان ذلك انتحاراً واعيا أم لا؟ على أي حال لقد أنقذه الحادث من الانتحار. ونلاحظ أن الإحباط واليأس الكامل يتجليان في كتابه المعروف " أسطورة سيزيف ". وهو كتاب جميل ويستحق أن يقرأ من أجل تبيان فراغ الحداثة وهشاشة الوجود. ( لا أعرف فيما إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا ).

لنتحدث الآن عن بودلير .. فقد مات أبوه وهو صغير . وكان متعلقاً بأمه إلى درجة المرض. ولكن الكارثة حصلت عندما تزوجت أمه من الجنرال "أوبيك" بعد فترة قصيرة فقط من موت والده وهذا ما سبب له حزناً عميقاً لم يقم منه طيلة حياته كلها. فقد اعتبر أنهم سرقوا أمه منه، وأنها خانته، ولم يعد يستطيع أن يتخيل أنها مع رجل آخر… يا للخيانة ! ويا للغدر! في الواقع أن بودلير كان يعاني من عقدة أوديب التي اكتشفها فرويد، وبلورها لأول مرة. وقد فكر بالانتحار أكثر من مرة، بل وقام بمحاولة انتحار فاشلة عندما ضرب صدره بالسيف. يقول لأحدهم معبراً عن يأسه الداخلي وتقززه من الحياة : أسوف أقتل نفسي غير آسف عل الحياة . سوف انتحر لأني لم أعد قادراً على الحياة. لقد تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم. يا لها من عادة مملة رتيبة. أريد أن أنام مرة واحدة وإلى الأبد. سوف أنتحر لأني أصبحت عالة على الأخرين، لأني أشكل خطراً حتى على نفسي . سوف أنتحر لأني أعتقد بأني خالد ومليء باللا أمل"(9).

الواقع أن الاكتئاب شائع كثيراً لدى كبار المبدعين. نضرب على ذلك مثلاً بيتهوفن. فهو أحد كبار الموسيقيين على مر العصور. ولكنه لم يعش حياة مريحة أو هنيئة كلنا يعرف أنه كان أطرشاً لا يسمع. وقد سبب له ذلك عقدة نفسية حقيقية. وربما كانت هي الدافع إلى تفجر عبقريته. فالعبقرية تجيء كتعويض عن نقص ما أو خلل ما كما يقول التحليل النفسي. كان بيتهوفن بحسب ما يروي لنا معاصروه يتميز بالسوداوية والحزن العميق الذي لا شفاء منه. وحتى عندما كان يضحك فإن ضحكته كانت بشعة. عنيفة، ناشزة غير طبيعية. كانت ضحكة رجل لم يتعود على الفرح أبداً في حياته. وعندما كانت تجيئه لحظة الإلهام، فإنه كان يخرج عن طوره ويصبح وكأنه أصيب بمس من جنون يصبح غائباً، سارحاً، شارداً والناس يضجون من حوله، ولكنه لا يعبأ بهم عل الإطلاق. وكان يصرخ بأعلى صوته، ويتمتم، ويدندن، ويمسح غرفته، ذهاباً وإياباً. وهو في حالة من التوتر الأقصى، حتى تحصل الولادة السعيدة، أو القطعة الموسيقية المنشودة. وبالتالي فهناك علاقة واضحة بين التوتر النفسي ، إن لم نقل المرض النفسي وبين الإبداع.

نضرب على ذلك مثلاً أخيراً الرسام الفرنسي الشهير كلود مونيه، أحد مؤسسي المدرسة الانطباعية في الفن. فقد كان على حافة الانهيار النفسي، وكان يشهد حالة الإحباط التي تسبق وتتلو كل عملية إبداع: أي كلما رسم لوحة فنية، وكان مازوشياً زاهداً في نفسه، مستصغراً لقدراته ولا ينفك يقول: كل شيء ضاع، لن أنجح في حياتي أبداً، سوف تخسر كل أعمالي، سوف أضطر لبيع البيت والفرش والأدوات الخ.. ومع ذلك فقد سجله التاريخ كأحد كبار الفنانين في العصر الحديث..

قلنا إذاً بأن العبقري يشترك مع المجنون (أو مع المريض العقلي ) بصفة أساسية واحدة: هي التأزم الداخلي، ولكن الفرق بينهما هو أن أزمة العبقري تنحل عن طريق الإبداع، في حين أن أزمة المجنون تبدو مجانية ولا تؤدي إلا إلى الهذيان الفارغ. هذا يعني أنه لولا إبداعه الخارق لكان العبقري قد أصبح مجنوناً .

فالإبداع هو الذي يحرر الشخصية من أزمتها الداخلية أو من تناقضها الحاد الذي يبدو عصياً على التجاوز في الحالات العادية. بهذا المعنى فإن الإبداع هو انفجار خارج من الأعماق. إنه ولادة تجيء بعد مخاض عنيف وخطر. وهكذا يستعيد المبدع توازنه لفترة من الزمن، وذلك قبل أن يدخل في دورة تأزمية جديدة تنحل أيضاً عن طريق إبداع جديد وهكذا دواليك.. نقول ذلك وبخاصة إذا ما لقي الإبداع ترحيباً في وقته من قبل شريحة واسعة من الناس. وهكذا يتوازن العبقري على اعتراف الناس وإعجابهم به.، ولولا هذا الاعتراف لربما فقد توازنه وغطس في بحر الجنون. فاعتراف الآخرين بك يعطيك ثقة بالنفس ويثبت أقدامك ويزيل الكابوس النفسي عن صدرك. والواقع أن تعريف العبقرية هو هذا : اعتراف العدد الأكبر من الناس بالمبدع، وديمومة هذا الاعتراف على مدار الزمن والقرون. هذا هو الشي ء الذي يعطي قيمة لا تقدر بثمن للوحات ميكيل أنجيلو ، أو فان كوخ ، أو لمسرحيات شكسبير، أو لروايات بلزاك وديستويفسكي، أو لكتب ديكارت، وكانط وهيجل في مجال الفلسفة، الخ.. ولكن المشكلة هي أن بعض العباقرة لم يتوازنوا نفسياً حتى بعد أن أبدعوا، كما حصل لفان كوخ وشومان وفيرجينيا وولف ونيتشه.

وربما كان السبب الأساسي يعود إلى أنهم لم يحظوا بالاعتراف الكامل بهم أثناء حياتهم، وإنما بعد مماتهم، فقد جاء الاعتراف متأخراً ، جاء بعد فوات الأوان. وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على فان كوخ الذي تباع لوحاته الآن بعشرات الملايين من الدولارات، في حين أنه كان جائعاً وفقيراً في حياته. لم يتح له القدر أن ينعم بشهرته ونتاج عبقريته. وقل الأمر نفسه عن نيتشه الذي لم يعترف به إلا نفر قليل في حياته، ثم انفجرت شهرته كالقنبلة الموقوتة بعد جنونه أو موته بوقت قصير. وكان قد تنبأ بذلك عندما قال جملته الشهيرة: البعض يولدون بعد موتهم ! سوف يجيء يومي، ولكن لن أكون هنا. وقد تنعمت أخته " إليزابيث " بهذه الشهرة والمال العريض الناتج عن بيع أعمال أخيها بملايين النسخ، في حين أنه لم يبع منها إلا بضع عشرات في حياته كلها.. ولكن يمكن القول بأن هناك نفوساً عطشى لا تشبع حتى بعد أن ترتوي. إنها أرواح حائرة لا يعرف كنهها أو سرها. وأكبر مثل على ذلك الكاتبة الانجليزية فيرجينيا وولف التي انتحرت حتى بعد أن نجحت وذاقت طعم الشهرة في حياتها..

في يوم الاثنين بتاريخ 27 فبراير 1854 كان الموسيقار الألماني الشهير روبيرت شومان جالساً مع أصدقائه في جلسة سمر في بيته. وفجأة يترك الزوار ويخرج بثيابه العادية. واعتقد أصدقاؤه عندئذ أنه خرج لحاجة ما وأنه سيعود بعد قليل. ولكنه في الواقع توجه مباشرة إلى نهر الراين وألقى بنفسه فيه بعد أن وصل تأزمه إلى حده الأقصى. ولحسن حظه (أو لسوء حظه، لم نعد نعرف ) كان هناك صيادون بالقرب منه فانتشلوه وأنقذوه من الغرق..

وفي عام 1880 كان عمر نيتشه 36 سنة. عندئذ ترك الجامعة بعد أن قدم استقالته وذهب لكي يعيش حياة التشرد والضياع على الطرقات والدروب. وهكذا ابتدأ يصبح فيلسوفاً حقيقياً. ولكن مزاجه كان دائماً متقلباً وفكرة الانتحار تلاحقه باستمرار. وقد اشتد تأزمه بعد أن فشل حبه الكبير للغادة الحسناء: لواندريا سالومي. ويبدو أنه قام بثلاث محاولات انتحار فاشلة عن طريق تجرع كميات ضخمة من سائل الكلورال. ولكنه لم يمت. والغريب العجيب أنه على أثر تلك الفترة بالذات راح يكتب رائعته الشهيرة: هكذا تكلم زرادشت وهكذا أنقذ من الجنون ولو إلى حين..

أما فيرجينيا وولف فقصتها مختلفة. فقد كانت مهددة بالانتحار طيلة حياتها كلها. وكانت تغطس في حزن عميق لا قرار له. وترفض أن تأكل، وترفض أن تعترف بأنها مريضة. وكانت تقول بأن حالتها تعود إلى شعورها بالذنب. ولكن أي ذنب؟ لا أحد يعرف. وعندما وصل تأزمها إلى ذررته حاولت أن تنتحر مرة أولى عام 1895 عن طريق إلقاء نفسها من النافذة. ثم حاولت مرة ثانية عام 1913 عن طريق تناول السم. ثم حاولت مرة ثالثة عام 1941 (ونجحت ) عن طريق إلقاء نفسها في النهر والموت غرقاً..

أما الكاتب الفرنسي الشهير دو مو باسان فقد حاول الانتحار عام 1892 عندما أطبقت عليه الأفكار السوداء ووصل تأزمه إلى ذررته. ولكنه لم ينجح. فاقتادوه إلى المصح العقلي حيث مات بعد سنة من ذلك التاريخ. وهكذا دفع ثمن شهرته وإبداعه غالياً .

والآن من يصدق أن الفيلسوف الفرنسي الكبير أوجست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، كان على حافة الجنون أكثر من مرة، وأنه حاول الانتحار عن طريق رمي نفسه في نهر السين !.. وبما أن الوضعية تمثل قمة العقلانية في الغرب، فإن أحداً لا يتوقع أن يكون مؤسسها قد أصيب بالجنون ، أو بالانهيار النفسي ، في بعض مراحل حياته. وهو دليل على أن العبقرية يمكن أن تخرج من رحم الجنون، بل وتنتصر على الجنون. ولولا أن أوجست كونت استطاع التوصل إلى بلورة فلسفته الوضعية وحظي بالإعجاب والتقدير من قبل معاصريه لكان قد انهار وغاص كلياً في ليل الجنون...


التوقيع
http://vb.futeis.com/uploaded/24_01278492023.gif
  Reply With Quote
Reply


Posting Rules
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is On
Smilies are On
[IMG] code is On
HTML code is Off

Forum Jump


All times are GMT. The time now is 04:11 AM.


Copyright ©2000 - 2024, Futeis.com