Go Back   منتديات قرية فطيس > قسم العلوم والتكنلوجيا والفضائيات > المنتدي العلمي
FAQ Community Calendar Today's Posts Search

Reply
 
Thread Tools Display Modes
Old 02-14-2011, 01:25 PM   #1
 
Amhar

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 24
المشاركات : 409
بمعدل : 0.08



Amhar is offline
Default حياتنا النفسية - نهاية الكتاب


الدكتور هاشم صالح / كاتب ومفكر

إذاً ينبغي أن نغير تلك الصورة السائدة في أذهاننا عن العباقرة والتي تعتبرهم أنهم فوق البشر وأن الضعف لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم.. فهذه صورة مثالية أو أسطورية لا علاقة لها بالواقع. إنها صورة تتشكل عادة عن العباقرة بعد موتهم،. صورة تبجيلية يساهم في صنعها الأتباع والأنصار والمعجبون هذا لا يعني بالطبع أن العبقري ليس عظيماً ، إذ يكفيه عظمة أنه استطاع الانتصار على انهياره الداخلي وتحويله إلى شيء ايجابي، إلى عمل عبقري. هنا تكمن عظمة العباقرة بالضبط. فهم يبذلون جهوداً جبارة للتغلب على أنفسهم، لقهر العقد النفسية المتجذرة في أعماقهم. وهكذا يحولون السلب إلى إيجاب والتحت إلى فوق، والجنون إلى عبقريات. أو قل إن الجنون والعبقرية يتجاوران لديهم جنباً إلى جنب. فأوجست كونت الذي كان يهذي والذي حاول الانتحار مرة هو نفسه أوجست كونت الذي أسس الفلسفة العلمية التي رافقت صعود العصر الصناعي في الغرب. وبالتالي فإنه يمثل قمة العقلانية وقمة الجنون في آن معاً ! وبالتالي فإن العبقرية والجنون هما من مصدر واحد: أي يصدران عن اللاوعي السحيق للفرد، ذلك اللاوعي الذي يمثل قارة مظلمة ومجهولة في آن معاً. إنها تشبه البركان العميق الذي يختلج تحت طبقات الأرض الجيولوجية. فأحيانا تقذف بالعبقرية إلى السطح، وأحياناً تقذف بالهذيان والجنون.

وأما جوته فعلى الرغم من الجنون الدوري الثقيل الذي كان يصيبه من حين إلى آخر، إلا أنه لم يقدم على الانتحار. وإنما اكتفى بأن جعل بطل روايته الأولى " آلام الشاب فيرتر " هو الذي ينتحر وهكذا وفر على نفسه هذه المهمة، ويقال بأن الكتاب الذين يمارسون الانتحار في كتاباتهم، أو يتحدثون عنه كثيراً ، لا ينتحرون فعلاً. وأما أولئك الذين يسكتون عنه كليا فهم الذين ينتحرون حقاً . وهكذا يفاجئون الناس بأنهم أقاموا على شي ء بدون مقدمات ودون أن يرهصوا به. وقد جرت إحصائيات في فرنسا عن نسبة المنتحرين بين المبدعين وتبين أنها عالية في أوساط الأدباء والشعراء وضعيفة في أوساط الرسامين والموسيقيين . نقول ذلك على الرغم من انتحار فان كوخ وجو جان وشومان وتشايكوفسكي. ولكن عددهم لا يقاس بأسماء الشعراء والروائيين الذين انتحروا من أمثال : جيرار دونيرفال، مايكوفسكي، بودلير، همنجواي، مونترلان، جي دوموباسان، فيرجينيا وولف، نيتشه، إدغار ألان بو ، والقائمة طويلة..

أخيرا سوف يكون من الحمق والغباء أن ندعي هنا بأننا قادرون على اكتشاف سر العبقرية. فالعبقرية، تحديداً ، هي سر الأسرار إنها تستعصي على كل تفسير. ولكن يمكن فهم بعض الجوانب المحيطة بها من خلال تجلياتها في أشخاص معينين ندعوهم بالعباقرة ، أو بالأشخاص الاستثنائيين أو بالمبدعين الكبار كما نحب أن نقول في لغتنا المعاصرة، وذلك لأن كلمة "عبقري" أو "عبقرية" أصبحت عتيقة أو بالية في الوقت الراهن. نقول ذلك على الرغم من أن المعنى هو ذاته. فلا أحد يعرف سر مسرحيات شكسبير الرائعة، أو سبب نجاح لوحات فان كوخ، أو قصائد رامبو، الخ.. صحيح أنه يمكن لمناهج النقد الأدبي والفني أن تشرح لنا الكثير من جوانب هذه الأعمال الإبداعية، بل وتنفذ إلى أعماقها في بعض الأحيان. ولكن يبقى هناك لغز ما يصعب الوصول إليه واستنفاده كلياً عن طريق التحليل. وهذا اللغز هو ما يدعى بالعبقرية.

فرامبو كان يستخدم اللفة الفرنسية مثله في ذلك مثل بقية شعراء جيله. ولكنه هو الوحيد الذي استطاع أن يكتب تلك القصائد التي لا تضاهى والتي لا تزال تسحرنا حتى الآن. يمكن أن نقول الشي ء ذاته عن المتنبي في اللغة العربية، أيضا أو حتى عن شعراء كبار آخرين. وإذاً فهناك كيمياء سحرية أو سرية للإبداع لا نعرف كنهها، ولا يتوصل إليها إلا المبدع الكبير (أو العبقري). إنه يركب الكلمات بطريقة ما وينفخ فيها الروح ثم يسطرها قصائد خالدة على صفحات التاريخ. وتظل تعجبنا وتأخذ بقلوبنا حتى بعد مرور مئات السنين. هنا يكمن سر العبقرية أو لغزها المحير. لقد حاول علم الطب النفسي والتحليل النفسي أن يكتشف سر العبقرية وتوصلا إلى نتائج لا يستهان بها، ولكن يبقى هناك شيء ما في العبقرية يستعصي على كل تفسير. يقول جاستون باشلار، أحد كبار العلماء والنقاد الأدبيين في آن معاً :"في أعماق الطبيعة ينبت عشب غريب. في ظلام المادة تنبثق أزهار سوداء. إن لها قطائفها الرائعة وعطرها الفواح"..

هكذا تولد العبقرية: إنها كالنور الذي ينبثق من رحم الظلام، أو كالعقل الذي ينهض عل أنقاض الجنون. والعلامة الأساسية التي لا تخطي، على العبقرية هو الاعتراف الكامل والكوني والدائم بها. فلا أحد يشك في عبقرية شكسبير، أو المتنبي أو المعري أو بودلير أو نيتشه أو هيجل.. وكلما مرت الأزمان على إنتاجهم عتق ونضج كالخمرة المعتقة وأصبح أكثر أهمية وامتلاء بالمعاني والدلالات.

لقد أثبت الطب النفسي الحديث بعد أن أجرى دراسات تجريبية عديدة أن العبقري لايتميز بتركيبة نفسية خاصة بقدر ما يتميز بتشغيل خاص لهذه التركيبة النفسية. فهو إنسان مثله مثل بقية البشر. ولكن استعداده النفسي مختلف،. فهو يتميز مثلاً بطاقة هائلة عل الحركة والابداع قياساً بالإنسان العادي. كما أنه يتميز بالاختلاف وحب الخروج على المألوف. فالامتثالي الخاضع للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع لا يمكن أن يكون عبقرياً. لأن أول سمة من سمات العبقرية هي الشذوذ عن المألوف. ولذلك فإن العباقرة يصدمون الناس في البداية ويلاقون صعوبات جمة من قبل وسطهم والمحيط السائد. ثم يمضي وقت طويل قبل أن يتم الاعتراف بهم، وأحياناً لا يعترف بهم إلا بعد موتهم. وحده العبقري يعرف قيمته منذ البداية، ولكنه لا يستطيع إقناع الآخرين بها فوراً بمن فيهم أسرته الشخصية. ولذلك يعاني معاناة جمة ويصاب بالإحباط في لحظات كثيرة، ويحاول التراجع عن الأمر أو الاستسلام، ولكن هناك قوة داخلية فيه أي قوة سرية، تدفعه لأن يستمر، لأن يواظب على مسيرته. ولذلك قلنا بأن من صفات العبقري الصبر والمواظبة لفترة طويلة من الزمن. إنه عنيد فعلاً، ولا يتراجع قبل أن يتواصل إلى تنفيذ المهمة التي خلق من أجلها. لذلك انه ينبغي أن نعتقد بأن العبقري يعتبر نفسه محملاً برسالة أو مسؤولاً عن تنفيذ مهمة عليا تتجاوزه وهو مستعد لأنه يضحي بحياته من أجلها، ومن أجلها وحدها. من هنا تجيء سر قوته ومقدرته على تجاوز العقبات والحواجز التي يصطدم بها في طريقه، والتي يضعها الآخرون في طريقه، فالعبقري ما إن يكتشف الآخرون نواياه الحقيقية حتى يتألبوا عليه ويحاولوا منعه من تحقيق مهمته. العبقري مهدد باستمرار خصوصاً في مراحله الأولى، والعبقرية خطر على صاحبها. ويصل هذا الخطر أحياناً إلى مرحلة التهديد بالتصفية الجسدية.


التوقيع
http://vb.futeis.com/uploaded/24_01278492023.gif
  Reply With Quote
Reply


Posting Rules
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is On
Smilies are On
[IMG] code is On
HTML code is Off

Forum Jump


All times are GMT. The time now is 10:54 PM.


Copyright ©2000 - 2024, Futeis.com