Go Back   منتديات قرية فطيس > قسم العلوم والتكنلوجيا والفضائيات > المنتدي العلمي
FAQ Community Calendar Today's Posts Search

Reply
 
Thread Tools Display Modes
Old 02-14-2011, 01:18 PM   #1
 
Amhar

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 24
المشاركات : 409
بمعدل : 0.08



Amhar is offline
Default حياتنا النفسية - تابع


بين الأدب والفن والنفس

بين العبقرية والجنون

الدكتور هاشم صالح / كاتب ومفكر

عن موقع الإمبراطور

وطالما تحدث الناس عن أسطورة بلزاك وقدرته الرهيبة على العمل خصوصاً ليلاً. فقد كان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساء ثم يحضر "طنجرة" كاملة من القهوة ويبتدئ الكتابة حتى الصباح دون توقف.

وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يومياً، بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة. ولولا ذلك لما استطاع كتابة كل هذا الإنتاج الضخم المتمثل بالكوميديا البشرية، وهو لم يعش أكثر من خمسين عاماً ! نعم إن العبقرية بحاجة إلى جهد جهيد، ولا تنزل علينا كهدية من السماء. يقول بلزاك في إحدى رسائله إلى حبيبة عمره مدام فانسكا: إن حياتي تتلخص بخمس عشرة ساعة من العمل، وبالمحن والعذاب، وهموم المؤلف، وصقل العبارات وتصحيحها(6).

ولكن هذا التدريب اليومي المستمر والدؤوب لا يفسر لنا وحده سبب العبقرية. فهناك دارسون أكاديميون يشتغلون ساعات وساعات يومياً دون أن يتوصلوا إلى أكثر من مرتبة دارس جيد أو جامع مفيد للمعلومات، وإذاً فهناك سبب آخر للعبقرية غير الجهد والتعب: إنه الموهبة أو شرارة الإبداع.

فهناك كتاب يمتلكونها، وآخرون لا يمتلكونها. ولذلك نسمعهم يقولون: هذا الكاتب موهوب،وهذا الكاتب عنده شيء، الخ... إذاً فالعبقرية هي نتاج الموهبة والجهد في آن معاً، وقد لا يكون حظ الموهبة فقط 1% كما قال الكاتب الانجليزي، وإنما 50% .

إن فلوبير يجسد في مجال الأدب، المثال الأعلى للمثابرة والمواظبة وبذل الجهد والتعب،. وكان يجلس وراء طاولته من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً لكي يستطيع أن يكتب رواية واحدد كل أربع أو خمس سنوات. ولذلك لم يكتب كثيراً: خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها ما عدا "مدام بوفاري" رائعته الخالدة. إنه يشبه المقلين في الشعر العربي القديم الذين اشتهروا بقصيدة واحدة أو عدة قصائد فقط. إنه يشبه عبيد الشعر الذين لا ينفكون يصقلونه ويعيدون النظر فيه أياما وشهوراً وربما سنوات. وطالما تحدث فلوبير عن عذاب الكتابة وكيف أنه يفني الساعات الطويلة. وأحياناً بضعة أيام، لكي يجد الجملة المناسبة أو حتى الكلمة المناسبة. وكم يلعن نفسه أثناء ذلك ويلعن الكتابة والأدب وكل شيء... وأذكر أني عندما زرت بيته الواقع في ضواحي مدينة"روان" على شواطىء نهر السين قبل بضع سنوات فوجئت بمدى التشطيب الذي كان يمارسه على كل صفحة يكتبها. فلا تكاد تقرأ فيها شيئاً واضحاً من كثرة الحذف والتشطيب والإضافة والتصحيح أو التعديل، الخ.. وقد تحول منزله إلى متحف يزوره الزائر متى يشاء كي يستمتع بالجو الذي كان يعيشه صاحب"مدام بوفاري" في القرن التاسع عشر. وعندئذ تستطيع أن تملأ عينيك بجمال الغابة المحيطة أو أن تراقب من النافذة مرور المراكب والسفن كما كان يراقبها فلوبير نفسه قبل قرن وهو جالس وراء مكتبه يسطر"مدام بوفاري"..

نعم إن فلوبير لم يكتب أكثر من خمس أو ست روايات في حين أن كتابنا العباقرة يتحفوننا كل عام أو حتى كل شهر برواية أو ديوان شعري أو كتاب فكري، الخ.. لماذا كل هذا الاستعجال يا أخوان؟ لماذا تحرقون الطبخة قبل أن تنضج؟ فلوبير كان حريصا على ألا يصدر شيئاً قبل أن يستنفد طاقته كلها فيه. يقول في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه:"لقد داخت رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجود ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها... إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب".

هناك خاصية أخرى يتميز بها العباقرة هي: حب الوحدة والعزلة والاستقلالية الشخصية. يكتب أحدهم: لقد قالوا عن العبقري بأنه يشبه المجنون. بمعنى أنه يولد ويموت وحيداً. انه شخص بارد، فاقد الحساسية لا علاقة له بالعواطف العائلية والتقاليد الاجتماعية. ولكن هذه مبالغة بالطبع. والواقع أن العباقرة يحبون العزلة من أجل التفرغ لإبداعهم وإنتاجهم، فلا تستطيع أن تبدع وأنت في زحمة الشارع أو في وسط البشر، ومن المعروف أن العلاقات العامة والاستقبالات والحفلات تأخذ وقتاً كثيراً ولا تسمح للمفكر بأن يتفرغ لنفسه وأفكاره وتأملاته. ولذلك اشتهر المفكرون بحب الوحدة والحرص عليها.

نضرب عليهم مثلاً شهيراً ديكارت الذي غادر بلاده فرنسا هرباً من المتطفلين والثرثارين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار. وكان يشعر بسعادة كبيرة إذ يسكن في حي لا أحد يعرفه فيه، ويمشي في الشارع ولا أحد ينتبه إليه. فالشهرة أيضاً مزعجة وينبغي أن يحمي الإنسان نفسه منها. إن العبقري يتميز بالهامشية والعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون هو أنه لا ينتهكها بشكل مجاني أو مبتذل أو غير واع. يضاف إلى ذلك أن للعباقرة عاداتهم التي يلتزمون بها وتصبح جزءاً لا يتجزأ منهم.

قلنا سابقاً بأن بلزاك كان يسهر في الليل وينام في النهار. وهكذا كتب معظم مؤلفاته إن لم يكن كلها. وهذه الطريقة في الحياة تعتبر جنوناً بالنسبة للإنسان العادي. فالطبيعي أن تفعل العكس أي أن تنام في الليل وتشتغل في النهار. ولكن العبقري ليس إنساناً طبيعياً . إنه مهووس بمشروعه إلى درجة المرض ومستعد لأن يضحي بكل شيء من أجله. وقد لاحظنا من خلال قراءة سير العباقرة أن معظمهم لا ينجبون الأطفال ولا يكرسون وقتهم لتربية عائلة. فمؤلفاتهم هي أطفالهم، وهم حريصون عليها مثل حرص الرجل العادي على طفله. فديكارت لم يتزوج، وكذلك الأمر بالنسبة لكانط، وسبينوزا، ونيتشه، وسارتر، وميشيل فوكو،الخ.. بالطبع فهناك استثناءات (هيجل مثلاً ). ولكن عموماً فإن العبقري يكرس حياته لشيء واحد فقط: هو إنتاجه وإبداعه.

يضاف إلى ذلك أن عادات العباقرة عجيبة وغريبة وتختلف عن عادات البشر. فمثلاً ينسون أحياناً أن يأكلوا ويشربوا في فترات الابداع، وينسحبوا من الحياة اليومية كلياً لكي يضعوا إنتاجهم مثلما تنسحب المرأة الحامل لكي تضع طفلها. وهكذا عاش مارسيل بروست ومات عام 1922 ضمن ظروف بائسة في غرفة حقيرة لا تحتوي إلا على سرير وكرسي وثلاث طاولات ! وأما " فرانز كافكا " فكان أكثر شذوذاً وغرابة أطوار. كان يفرض على نفسه عادات صحية عجيبة خوفاً من المرض. وكان هوسه اليومي هذا على علاقة بهوسه الابداعي. كان يفرض على نفسه مثلاً الاستحمام بالماء البارد جداً والمثلج، ويمتنع عن تناول الكثير من الأطعمة اللذيذة ويعاقب جسده معاقبة صارمة. وكل ذلك بسبب العصاب الهوسي الذي يلاحقه والذي أدى إلى تفتح عبقريته على الرغم من كل شي ء. وهنا نلمس لمس اليد نقطة التواصل بين العصاب النفسي، وبين العبقرية. يضاف إلى ذلك أن العباقرة متطرفون في عاداتهم على عكس الناس العاديين أو المتوازنين. فمثلاً كان فولتير يشرب خمسين فنجان قهوة في اليوم ! وقل الأمر ذاته عن فلوبير وبلزاك. وذلك لأن القهوة تنبه الأعصاب وتجعلها متحفزة للابداع. وأما بودلير فقد تجاوزها إلى ما هو أخطر: شرب الكحول بشكل مسرف وتعاطي المخدرات. وقد دفعت صحتهم ثمن ذلك غالياً... ولكن في سبيل الابداع كل شيء رخيص.

والآن ماذا عن القلق؟ في الواقع أن العباقرة شخصيات قلقة حساسة إلى درجة المرض والتطرف الأقصى. ولو سمعنا كل حكاياتهم وقصصهم العجيبة الغريبة لحمدنا الله على أننا لسنا عباقرة ! لنضرب على ذلك مثلاً شوبنهاور. فقد كان مصابا بجنون العظمة وعقدة الاضطهاد في آن معاً. وكان يعتقد بأنه ملاحق باستمرار دون أن يلاحقه أحد.. ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده من أجل خنق عبقريته أو القضاء على إبداعه الفلسفي. ألا يقترب ذلك من الجنون؟ أين تقع الحدود الفاصلة بين العقل والجنون؟ فمنذ عام ( 1814) أي عندما كان في السادسة والعشرين من عمره راح يقارن نفسه بالمسيح ويعتبر أنه مبعوث لهداية البشر على طريق الحقيقة. يقول:"يحصل لي ما حصل ليسوع الناصري عندما أيقظ حوارييه أو أتباعه النائمين. أنا رجل الحقيقة الوحيد في هذا العالم". ولكن جنون العظمة هذا تحول فيما بعد إلى عكسه، أي إلى عقدة الاضطهاد ثم أصبح مسكوناً بهاجس القلق الأقصى والمرعب إلى درجة أنه كان يرفض أن يسكن في الطابق الثاني أو الثالث من البناية خشية أن يحصل حريق فيها فلا يستطيع القفز أو الهرب قبل فوات الأوان ! فكان يحمل مسدساً معه باستمرار ويضع يده عليه مستنفراً ما إن يسمع ضجة خفيفة أو هبة ريح في الخارج باعتبار أن هناك دائماً أشخاصاً قادمين لاغتياله.. يضاف إلى ذلك أنه كان يكتب أفكاره للوهلة الأولى باللغات الإغريقية واللاتينية بل وحتى السنسكريتية ويخبئها بين صفحات كتبه كي لا يقع عليها أحدهم ويسرقها منه ! فقد كان يعتقد كما قلنا أنهم سيسرقوها منه وينسبوها إلى أنفسهم. وكان يحقد على معاصره هيجل حقداً شديداً لأنه نجح ولمع، في حين أنه هو بقي مجهولاً طيلة حياته كلها تقريباً. وكل هذا لم يمنع من أن يكون أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة.


التوقيع
http://vb.futeis.com/uploaded/24_01278492023.gif
  Reply With Quote
Reply


Posting Rules
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is On
Smilies are On
[IMG] code is On
HTML code is Off

Forum Jump


All times are GMT. The time now is 11:27 AM.


Copyright ©2000 - 2024, Futeis.com