Go Back   منتديات قرية فطيس > المنتديات الأدبية > المنتدي الأدبي
FAQ Community Calendar Today's Posts Search

Reply
 
Thread Tools Display Modes
Old 01-23-2011, 05:47 AM   #41
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

الغازات

د.بشرى الفاضل

في طرف عشوائي من أطراف تلك المدينة المختلطة المتنافرة العناصر ربض بص ذوكرش ضخم كأنها انتفخت خصيصاً لابتلاع البشر. ولعل البص خريج إحدى جامعات المصانع في أوروبا، جلبه للسودان جالب غير هياب من الضرائب، ولا غالب له في أمر المال السائب.
كان النهار يقول: )هنا إذاعة ضربة الشمس والسحائي، الساعة الآن الثانية عشرة(. يد السائق اليمني مرمية على عجلة القيادة، واليسرى ملقاة بأعلى هامته، ولعله قصد بترك اليسر فوق الهامة أن يصد رغبة الرأس في الانفجار.

لم أكن أول الوالجين في كرش حوت يونس ذاك، إذ كانت به قبلي خادم الله بسلتها، وما يفوح في تلك السلة من طعام، لا يخفى أين تود أن تذهببه. كان هناك رجل لا أعرفه، وامرأة لا أعرفها، وأمثال هؤلاء كثيرون ممن يجلسون من حولي على المقاعد ولا أعرفهم. قلت في سري )أُفْ فْ فْ(، ولكن الهواء خذلني، إذ نقلها، فسمعها الركاب فالتفتوا ناحيتي ملياً، حتى هربت منهم بالذاكرة.
قبل ذلك بثلاث ساعات فقط، كان هنالك صف، قربه توجد يد طويلة ممدودة؛ طويلة، بحيث يحدث خلل في نسب أعضاء صاحبة اليد. هل في مقدورك تصور رافعة معطوبة في رصيف ميناء؟ تلك حال اليد المدودة.

وكان هناك رجل أصلع يطل من الشباك طوال الوقت. هو صامت، لكن الجميع يخاطبونه باسمه. وكان هناك عطا. رأسه آلة حاسبة، وفي جبينه عرق، وفمه جاف، كان عطا يقف في منتصف ذلك الصف العجيب ويتمتم ) 15 للبيت ، 4 للغسال ، 20 للكنتين ، 5 لخالتي نفيسة. ثم تذكر عمته بنت المنى وجدته التاية. فشطبت الآلة ما دونته وأعادت الكرة من جديد ) 13 للبيت، 3 للغسال..( وظنت الآلة الحاسبة أنها قسمت المبلغ كقسمة الفقراء للنبقة.
ولكنها تذكرت الاشتراكات. وصديقها عبدالمنعم مطر. )آه يا ملعون ما تعرس إلا في الشهر دا؟(. كان عطا قليل المسرة، شديد الحيرة والارتباك. عبدالمنعم صديقه وعفاف خطيبة مطر صديقته أيضاً، لذلك أفسح لهما مساحة في سطور الآلة الحاسبة وهو يدندن: سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام وبينما عطا مشغول بمحاورة آلته الحاسبة؛ دخل رجل سريع الحركات ذو شارب وعينين قلقتين، وتخطى عبدالقادر المتسرع أبناء آدم الموجودين بالصف مخفياً سوء ملامح وجهه بابتسامة ناشفة مشفوعة بخجل باهت غير مفيد في مثل هذه الحالات. ووقف أمام عطا في الصف الممدود الحبل.
قالت الآلة الحاسبة: )العمل القبيح لا يلد إلا الابتسامات المبهمة( ثم إن الآلة الحاسبة دنت من الشباك وانشغلت بأمر القبض والتوقيع عليه ومراجعة القبض والتوقيع عليه وما إليه.
كانت هناك يد مدودة مثل رافعة . وكانت اليد الممدودة مجزومة، وفي نهايتها صحن مبسوط، ولليد جسد مرفوع، ورأس منصوبة، وللجسد ثوب مجرور، وكانت تملك تلك الأعضاء والأمتعة جميعاً، امرأة معدمة ؛ جاءت زاحفة بريّاً من منطقةٍ شاحبةٍ نائية.

وكانت تلك المرأة ترفع عقيرتها بصياح سمته البؤس والفاقة:
- الله كريم. الله كريم. ورحيم. لله يا ممنين(. خرج عطا من الصف بفرح مؤقت، ورمى للرافعة ما أفلت من الرأس الصلعاء من )فكه( وانهمر ثناء الرافعة ليعادل عطاء عطا السخي:
- الله يجيب البركة.. ما شاءالله!
ثم:
- لله يا )ممنين( ويدور الرحى من جديد. جرى عطا نحو أماكن كثيرة لا يريدها في مثل هذا اليوم. وانتهى به المطاف إلى ذلك البص اللعين. فركب ثم انفلت منه ذلك التأفف )أفْ فْ فْ(. ولعله انفلت من عطا أو مني لست أذكر.
انشغلنا أنا وعطا برجل ذي جلباب نظيف وظللنا نراقبه، عطا يراقب حاله وأنا أراقب مقاله، حتى ضاق الرجل بنا فترك مقعده غير آسف وتنحنح جاره على الفور، كأني به ينبه بقية الركاب ثم انفجر:
- نشالين الزمن دا. نضاف زي التجار. بقوا نص النهار عينك ..عينك، أسه الزول دا النزلوا شنو؟
صمت الناس جميعاً لثوان كأنهم اتفقوا على دقيقة حداد. ثم هبط الحر، فصعدت السموم، وما انفك المزيد من الركاب يتوافدون خمسة، ثمانية تسعون...
( يا ابن العم ما تدوّر خليتنا زي الساردين (. ) دوّر آللخُو) قال سعد في سره(اسكت يا اقليمي). اللخو قال! (.وكان السائق صامتاً لا يرد. أصبح تمثالاً من كثرة ما ألقى في وجهه منقول غليظ.

امتلأ البص حتى بلعومه بالنتن من الروائح، وبالأطعمة والجوالات والبصاق رغم أنف التحذيرات المكتوبة )ممنوع البصق( بالعريض، قرأها شبه أمي وسط ذلك الجمع )ممنوع البصل(؛ وقرأها أمي تام الأمية )ممنوع البص( فلم يختلس النظر إلى جارته. ثم عدل عن فهمه لها:
- آه يعني البص دا ممنوع؟
وخرج لتوّه كأنه نسي الحرف الأخير بمنزلهم.
- يا شاب ما تحرك!.
ولكن السائق لم يتحرك إذ تأخر لدرويش يحمل إبريقاً وقلباً طيباً، ورهبة، فركب، ثم إن الخليل بن أحمد خرج غاضباً من بيت شعر مكسور ودخل في ذلك البص اللعين.
كان الكمساري مرفوعاً من أرضية البص إلى أعلى بغير رافعة سوى البطون والأكتاف، رجلاه في الهواء ونظره زائغ بحيث يبدو كخروف مذبوح )كيري( بدليل وجود الملابس عند الكمساري والجلد عند الخروف الكيري.
وكان ذلك الكمساري التعيس لا يتحرك، ولا يراه الركاب الذين لا يعرفون أمكنة جيوبهم. أما نقودهم فحدث عنها ولا حرج. كان الكمساري محجوباًبالزحام. ولكنه معروف مع ذلك للجميع، بواسطة التكشيرة المقدرة على فكه منع من ظهورها اشتغال الركاب بحركة المعاتلة. صاح الخليل بن أحمد:
- حافلات شاحنات سيئات
مركبات قاتلات فاعلات.
وكان حال الحافلة أشبه بحال أعماق المحيط في التداخل، والتماوج. كل مشغول بأمر نفسه، مهتم بها كأن العالم ينتهي لدى طرف أنفه. وكان الدرويش بين كل دقيقة وأخرى يباغت الركاب:
- )حَيْْ(
فيرد رجل مخمور من عامة الركاب:
- )قيوم(
وينفجر بقية الركاب بضحك سوداني عامر. وفي الممشى حيث تبلغ الكثافة الركابية ذروتها ) 20 راكباً في المتر المربع(. كان سعد يلاصق نعمات. بكت نعمات في سرها ولكن سعد سدر في غيه. حاول أن يقول لها شيئاً بالصوت الجهير ولكنه خاف. فتولى الدون جوان الذي في داخله الأمر. إذ قال:
- يا صبية مسك مس أرنب والريح في البص ريح زرنب. التصقي التصقي.
وكان بالمقابل يلتصق هو لا هي.
وحين أدار السائق القدير، وليس أمامه مفر من أن يكون غير ذلك، حين أدار المحرك وتمخطرت العربة بين أفواه التماسيح، والأسنان الجائعة للمطاط، أصبح الأمر كله كقفص لدجاج جائع في أطراف المدينة، يرعب أهله بالصياح ويرعبونه بالجوع. يطالبونه بالبيض فلا يبيض، ويطالبهم بالطعام فلا يطعمونه.
تجاوزت سفينة نوح هذه بنا محطة، وحطت بأخرى، فتلاطمت موجات بشرية جديدة لداخله، وخرجت منه مويجات ضعيفات التيار. وكان من ضمن القادمين رجل يترنح. قام سافر تاه.. قام تقدم وقع.. عطش عطش شرب..
وجد الشارع سار.. وجد البص ووجد الناس فدخل. وكان سكره معلن عنه بالحنجرة التي ترغى وبالمونولوج الداخلي المتقطع:
- أسع هق؛ الناس دي هق؛ متزاحمة فوق.. فوق.. كم؟
وما أن استقر محمود ، وهذا هو اسمه، داخل البص حتى بصق بصقة إفريقية وذلك بأن كور اللعب في فمه كالكرة الصغيرة. ثم قذف به دفعة واحدة خارج فمه: )طج(. فبلل ثوب خادم الله الذي يستر حالها على علاته، وحين ماءت خادم الله، نبح فيها فسكتت. فتصدى له مولانا ذو الصوت الجهوري والكلمات المحكرة :

– يا ابني اتق الله. أولاً ما فعلته قذارة والنظافة من الإيمان. ثانياً: هذه الولية حرمة، وثالثة الأثافي ذلك البصاق، والعياذ بالله ، خمر.
وتوكلت خادم الله على سيدها، وناوشت محمودا متكئة على تشجيع الناس لها. لكن محمودا تدحرج نحوها فجن جنونها. كان محمود هائجاً كثور اسباني وانبثق من فمه كلام كاللعاب:

- قلت يا وليه هق أنا مليان هق مريسة وعفن؟ قف. هو شبهك إنت قف. بلا المريسة والعفن قف. شن.. قف. شنو؟(.
فردت خادم الله:
- قلت شنو يا راجل يا عديم الحيا؟ والله يا هُوْ(.
وكان هذا غاية ما تعرفه خادم الله من الوقاحة. أما محمود فقد وقع من السماء سبع مرات، ولكنها ربما كانت وقعات فارغات مثقوبات، وذلك أصبح واضحاً للعيان بعد وقوف جميع الركاب ضده منحازين لخادم الله، ولم تدم سيطرة خادم الله على خيالات الركاب طويلاً، إذ جذبت الانتباه جلبة، أبطالها أطفال، أشجعهم يسير في المقدمة، وأخوفهم يسير في المؤخرة. والخائفون أصواتهم عالية. وهم جميعاً يمشون مشية العساكر. أرجلهم تدق الأرض، مخيلاتهم جامحة وشديدة الخصوبة. والنغم موحد. يزفون رجلاً كالأرجواز. عكازته عتيقة، ووجهه كالسعن المتيبس. كانوا يهتفون:
- قفه.. قفه.. قفه.. قفه...
صاح الخليل بن أحمد داخل البص:
- فعلن.. فعلن
فلطمه أحدهم حتى طار عجز البيت ، فعجز عن مواصلة الكلام ونزل. كانت الزفة قد بلغت منتهاها عند بلعوم حوت يونس المنكوب، كان قفه فيما بدا للناس منكوباً . وله جسد يهتز بلا مثير للاهتزاز، مثل عنق دجاجةوله رجلان نحيفتان ملتويتان وفم ذو تمباك. ومن شدة برمه سب أمهات الأطفال نهاراً جهاراً حتى ضحك الركاب ولكن أكثر الأطفال لا يعلمون.
- قفه.. قفه.. قفه.. قفه.
كل مجموعة تناوب الأخرى وقفة وراءهم بكل وسائل الشجار السوداني بدءاً بالتراب وانتهاءً بالسباب.
- ياشف ف.. ع ياوولاد الح ح ح ح ح ح ..
الله ومع ذلك في الأمر تأتأة يا سيد قفه.كركر الركاب من جديد بضحك سوداني عامر وقال له بعض الركاب:
- )أركب خلاص، أولاد حرام. وارتاح قفه للمساعدة القيمة. وأمسك
بتلابيب الكلمة جيداً حتى لا تتبعثر منه أصواتها في فمه التمباكي، وقذف بها في وجه الأطفال.
ثم إن السائق انتهرهم بالصوت الغليظ.. فتفرقوا مصدرين صيحات الأطفال المألوفة لدى انتهاء اللعب، كأنهم ينبهون أمهاتهم بتوجههم نحوهن.
ودخل قفه في زمرة الركاب بأن حشر نفسه مباشرة في أحاديث الناس، التي لا يفهم منها سوى كلمة لا تضحك فيضحك عندها، وأخرى لا تهز فيهتز لها جسده مابين الصفا والمروة. وكان بين الفينة والأخرى يقاطع حديث الركاب بكلمة جمعها فأفلتت منه في ذم الأطفال البائدين.
- شفع ما مرب أب أب أب.
سئم الناس قفه فنسوه. سئم الركاب الخليل فأنزلوه. وكان المخمور هامشياً، وكان الدرويش مستمراً على وتيرة واحدة إذ يقول )الحي( فصار الركاب ينتظرونها بميكانيكية كانتظارك نقطة ماء تقع من صنبور معطوب.
وهكذا تشرنق الركاب، كل يبحث عن نفسه التي بين جنبيه، قال عطا:

- كيف أكون أنا أنا؟ ثم أكون أنا أحزان قلبي وأصفيائي وأحبائي؟ وانشغل عن سؤاله الغريب بمراقبة رجل صفوي يفكر. فكر الرجل الصفوي. ثم فكر. وأخيراً هداه تفكيره إلى أن الشمس هي السبب في كل ما يحصل في هذه المركب وفي البلد عموماً وفي العالم.
- أيتها الشمس اللعينة - قال الرجل الصفوي- لماذا هذه الحمم وهذه الغلظة؟ أما تدفئين بلاد الإنجليز التي هاجر بعض أهلها خوف البرد الذي قتل
أبا ذر وسكنوا بلادنا ردحاً فعمروها؟
ولكن الشمس كانت بعيدة جداً. خارج مرمى تساؤلات الرجل الصفوي جميعها، ترى ولا ترى تسمع ولا تسمع. هل تهب الحياة؟ نعم. هل تدمرها؟
ربما فقط إذا قال النهار: )هنا الصيف؛ إذاعة عنبر جودة وقلة الهواء الصالح( فترسل الشمس إذ ذاك شعاعاً أحمر وأخراً بنفسجياً وثالثاً تحت الأول ورابعاً فوق الثاني. والمسبحة البشرية داخل حوت يونس تدور وتهمهم )يا لطيف، يا لطيف( ثم يكون السهو: )رمضان المدارس، المواصلات. يا لطيف. الرغيف، الفحم، البصل، يا لطيف( ولما كنت طالباً بارد الحشا فقد كان الأمر الدائرة به هذه المسبحة يعنيني على تجريداته فسحب. ولذلك كانت المسبحة تدور وأنا أضحك على السذاجة حتى غفوت وانشغلت بحالي في غفوتي. رأيت أن الأولية جاءتني بدجاجها الذي يلقط الحب، وبديكها الذي صاح قبل طلوع الفجر، رأيت الكتب الهاربة وبعضها منسي. وكان أكبر ما رأيت هو انتظاري في ركن من أركان المعمورة لزائر لا يجيء. انتظرت السودان وفي يدي زهور برية قرب محطة مترو. كانت المنطقة غاصة بمواطنين ينتظرون فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.وتبدت لي في الأفق كتلة فرح سوداء، ما أن اقتربت حتى تبدل لونها إلى أزرق فاتح يخلب الأبصار، قلت هذا هو! يالحسن عينيه! وخيل لي أني سمعت وقع خطواته ففرحت فرحاً جماً وما أن رفعت يدي في بروفة لإهداء الزهر حتى دهمتني دولة ثرية فجريت منها كما يجري

  Reply With Quote
Old 01-23-2011, 06:04 AM   #42
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

الناس من الطاعون ولكنها اقتفت أثري وصاحت )تهاجر؟( )قلت( لا)ثم صحت: يا دينق يا دينق( وقفز الصديق دينق لنجدتي. وصرخ فيها:
- وهْ ) 1(! – فهربت لديارها تنضح بالبترول. ثم أني قلت يا دينق يادينق .... وتجولت مع دينق حذاء النيل في ذلك الوقت الغريب فرأيت الناس يكرهون حياتهم التي يحيون، وخرجت التماسيح من النيل من شدة الحر وقسوة ودكتاتورية الضفاف. قالت الأسماك والتماسيح: هراء كيف نقضي العمر سابحين في نهر واحد؟ فقال لها النيل: موتي إذن.
وخرجت جميع كائنات النهر تتظاهر كما خرجت البيوت والعمارات متعاطفة مع البشر.
واهتزت الحافلة فقالت خادم الله وهي تبتسم:
- قول بسم الله.
فقلت.
فسألت:
- وما لك مخلوع كدى؟
ضاع مني كل خيط بعد صحوتي عن أمر الركاب الذين عنهم أحكي. إذ أن الشمس لفحتهم لفحة وهم مسبحة تدور بما أسلفت وحين ازداد هدير البص عند منعطف ما وأطلق دخاناً وعبق المكانبخليط من الروائح فتلبكنا جميعا ركاباً وحديداً وسائقاً وكمسارياً. مثل قطعة صابون تغلي في ماء. ثم تحولنا إلى كتلة ودك، هشة متماسكة وخالية من المسام. اختلط حابلنا بنابلنا وسكرياتنا بتوابلنا ورافضنا بقابلنا. هل هززت إليك بجذع دومة حتى تساقط ثمرها صلباً قوياً؟ ثم أخذت مما تساقط ثمرة فهززتها حتى ارتج ما بداخلها؟ ذلك حالنا في تلك الحافلة في ذلك النهار ذي الموجات الإذاعية الحارقة الطويلة كتلة واحدة
غبراء ومتلبكة. لا لسنا العجوة ولا الساردين كما يظن خيالك. ولكننا أبناء الكوارث والصبر غير الطيب فمن يحولنا من؟ من يحيل فسيخنا بطيخاً؟
قال الدرويش:
- الحي.
وقال الجميع )قيوم(.
ولم يضحك أحد هذه المرة. أصبح السائق ، أي قطعة الشحم في أول الكتلة الودكية ، يقف في كل محطة فتدخل أمواج متلاطمة من البشر، كل موجة تلاطم موجة وما أن يستقر من ركب في وسط الودك حتى تسري فيه الحرارة فيتلبك. أما من الناحية الباب الأمامي فلا أحد ينزل. حاول قاسم الشرطي أن ينزل وكنت جاره قبل أن نتلبك، فوقفت أعضاؤه بعضها فوق بعض، تساقطت عيناه وحاجباه وأنفه وفمه ثم تفككت مفاصله وانفصلت عن جسده بفعل الحرارة واختلطت أعضاؤه وتباعيضه بأجزائنا وتباعيضنا وهكذا أصبحت الكتلة جسداً واحداً مهموماً وساخناً وذات مصير مشترك، أصبح الراكب للراكب كالبينان يشد
بعضه بعضاً إذا تحرك منه عضو تألمت سائر أعضاء البقية بالتعب والمجابدة. مر أحد بغاث البرجوازية في محطة ذات إزعاج بمركب نوح التي نركبها، وكان قبل ساعة من مروره يخطب ويخطب حتى أدركه النعاس فنزل من صهوة عبارة مستهلكة مضغها خمس مرات وصفق له جمهور من دهاقنته عشر مرات وكان بعض التصفيق للتحية والمجاملة وبعضه الآخر للمجاملة الصرفة. مر ذلك العالم العلامة الأريب المناضل حتى آخر السكباج، بالقرب
من سفينتنا ومد أنفه فاشتم رائحة حيواناتها ومتاعها وبشرها ثم حمد الله أن
لديه عربة تقيه من شر حاسد إذا حسد.

ثم أن سائقنا انحرف عن الشارع يميناً ليتفادى طائشاً آخر فمالت سفينتنا حتى ضجت الكتلة الودكية كأنها تبكي عزيز قوم. وتسمع لفظ المحافظة.. المحافظة.. المحافظة يتردد كالفاتحة في ما تم ذلك العزيز وسخط بعض الودك من قطعة الودك التي كانت في المقدمة وأوشكت هذه أن تقول:
- أنا ودكاية مثلكم ولست سائقاً.
ولكن السائق الذي كانته ارتاح على مخدة ذكريات أيامه الغوابر حين كان يعمل بالجزيرة أيام شبابه، كان يقود شاحنة تجارية يرقد في بطنها بدلاً من البضائع ركاب سعداء. أفواههم مفتوحة على مصاريعها وأسنانهم صفراء لوَّنها الجهل والبؤس. وتعلموا فتح الأفواه بالوراثة من آبائهم الأولين، بعضهم مريض، والبعض الآخر مريض أيضاً ولكنهم قنوعون بحياتهم ومتآلفون ودودون وكرماء. كانت الشاحنة قد تعودت أن تغير في سهول الجزيرة وأن تدخل من قتام في قتام، وكان السائق في زهو العرسان، يشعر بأنه ملك هذا الحديد ومسخره كأن داؤد النبي جده، وكان أطفال كل القرية يعرفون الشاحنة من
صوتها، إذ ما أن يدلف بها السائق في فم فناء القرية حتى يحيطها الأطفال بأسمالهم وذبابهم وبطونهم المنتفخة مرضاً وفراغاً. ثم ينسق السائق من أنغام البوق ميلودية محببة لجميع الأطفال ويغنيها حتى تسمع القرية كلها صوت )البوري( الصاخب يهدر :
- )سيد اللبن جا يا نفيسة(
فيرد الأطفال:
- )طالبني قرشين في المريسة(.
ويغني البوق:
- )سيد اللبن جا أنا مالي(.
ويرد الأطفال:

- )طالبني قرشين في التسالي(.
ثم تخرج الشاحنة من فناء القرية.فيشيعها الأطفال بالحجارة ويلف ركابها الغبار. ذلك جزاء سنمار ويصيح صائح أشعث:
- شفع مطلوقين
ولكن السائق سعيد والأطفال أسعد. ذلك زمن )حليل زمن الصبا( أما الآن فهو يبدو من خلال كابينة قيادته كالنمر الحبيس بحدائق الحيوان. حتى الأطفال يهزءون به وهو لا يتحرك ببنت مخلب ولا ناب. ها هو الآن يتحول أيضاً مثل ركاب الشؤم إلى ودك قابل للانزلاق والتلاشي.
سكت السائق من تأملاته فسكتت عنه. وجرف سفينة نوح لقلب الشارع ثم جرى بها جري حرائر الإبل وأوصلها لشجرة المنتهى من المحطات وهناك لفح الهواء الساخن كتلة الودك الصلبة فتحول الركاب لسوء الأحوال الجوية والنفسية من حالة الصلابة للحالة الغازية دون المرور بحالة السيولة فتبخرنا من الشبابيك والأبواب غازات سودانية ملونة وقلقة. الكمساري ساعة أن رأى نفسه سحابة دخان حاول أن ينزل كالقط، حذر أن يقع حتى لا تشتبك أعضاؤه الأساسية ضد الثانوية، وبما أنه خفيف قصير القامة، فقد وجد نفسه في الهواء لحظة أن وضع رجله في درج السلام، أصبح رأسه مكان رجليه، ووقع على الأرض. وهناك مرت عليه نسمة باردة فرجع ابن آدم كما كان قبل ركوبه البصل بيد أن جسمه روى عن نفسه فيما بعد فقال: أصبحت كالعنزة الجرباء أفردها القطيع. أصبح مثل السلحفاة التي تدخل رأسها في قدحها خوف الخطر. رأسه داخل صدره وصدره داخل بطنه ورجلاه كرجلي ضفدعة.
- شيء عجيب
قال عبدالمنعم
- أبونا آدم سلم وديعته لهابيل وهابيل سلمها لإدريس وإدريس سلمها لنوح. كل نبي يضيف من حسنه لحسن الجيل الذي يليه كأروع ما يكون الاحتمال و-الديالكتيك- حتى اكتمل الإنسان فكيف لحوت يونس هذا يعجننا كما عنّ له .لا يستحيل!
قال عبدالمنعم. ثم اشعل غازه الذي كأنه، نارا واشتعل في الهواء
وتلاشى.
أما أنا فنزلت وبي حذر أكبر من حذر غيري، كنت طويل القامة وحين لامست قدماي الأرض دخاناً أسود. حمدت الله وقلت ستمر نسمة وسأجمد على أحسن حال. وسأكون وسيماً. وما أن ذكرت أمر الوسامة هذا حتى قررت أن أجري بعض الاصلاحات الطفيفة لأكون وسيماً أكثر مما كنت. وتذكرت أن فكي الأسفل به طول. فهششت بعض الدخان الموجود مكانه ثم جعلت وجهي مستديراً وفتلت عضلاتي وعدلت هيئتي لا كما كانت ولكن كما كنت أتمنى من الحسن والبهاء. وقبعت في انتظار النسمة الباردة ولكنها لم تهب. قال المغني )كيف العمل؟( قلت أتدرج خطوة خطوة في اتجاه النسائم الباردة لئلا تختلط تباعيضي مرة أخرى.وما أن خطوات خطوة حتى وقعت في حفرة مجاري ومكثت هناك ردحاً من الزمن وعندما خرجت منها كنت رطباً بارداً.
عنقي به التواء وأنفي أفطس وعيناي توشكان أن تهربا من وجهي. جريت قبالة مرآة في مكان عام فما رأيت حيواناً أبشع مني.
قلت:
- هل هذه بلد؟ إذا ركب الواحد مواصلاتها كان عليه أن يصير خنزيراًً وقرداً إذا نزل؟
وفجأة أصبح الجمهور في الشارع يناديني باسم غريب على:
- )بخيت.. بخيت.. بخيت!
وناولني بعض الأطفال التسالي وهم يضحكون. وتحسست جسمي فلم أجد ذيلاً.
محمود المخمور كان يدخن ساعة تلبك وحزة أن صار دخانا اختلط دخان سجائره بدخان جسده وهبت سموم فلفحته إلى مخزن فتلقفه صاحب المخزن وعبأه في علب سجائر صنعت خصيصاً للسودان وللدخان.
خادم الله جار النبي جرت من هول ما رأت )دخاناية( سوداء ورست بمبخرة في مطعم قذر وهشت ذباب ذلك المطعم حتى طردته ولكن بعضه تساقط في أطباق الزبائن. انتقم الذباب من الدخان الذي أصبحته خادم الله فاستنشقه ومات عملاً بالقول المأثور )علي وعلى أعدائي يا رب( وحين هبت نسمة باردة لإرجاع خادم الله، بنت حواء التي كانت، لم تجد تلك النسمة منها سوى ثوبها الخرق.
نعمات ذات العينين الواسعتين خرجت دخاناية بيضاء وتمخطرت كبنت فرعون فاشتبك بها دخان سعد وتخللها فصرخت حتى فض بعض الدهان الواقف مجاوراً نزاعهما ولكن نعمات التعيسة مرت بقرب )كوشة( فتحرش بها دخان )الكوشة( وغازلها واشتبك بها والتف وامتزج بها فلوثها فحبلت وولدت دخانا تشمئز منه النفوس.
قال دخان الدرويش: )مدد( فهتف به هاتف أن أصعد، فصعد تحرسه العناية حتى فنى في حب المعبود.
خرج دخان السائق محتاراً. فوجد سحابة صيف فامتطاها بلا جواز سفر فعدت به وهاجر. حليمة المضمخة بالعطر الزائد عن الحد وجدت نفسها بجوار دلكة وصندلية وطلح في دكان صغير(. سارت خمس شابات جامعيات هن )عفاف وعلوية وعواطف وهدى وليلى( سرن كخمس )دخانايات( إحداهن صفراء والأخرى خضراء والثالثة سمراء والرابعة لون زينب والخامسة خاطفة لونين. قالت علوية:
- الحمد لله البقينا سودانيات، اسه كان خواجيات ما كنا عرفنا رأسنا من قعرنا.
سرن جميلات رشيقات أنيقات يتأففن من ملاصقة الهواء النقي للدخان الذي كنه فالتف بهن إعصار ذو غبار فسحب منهن )الكروت الرابحة( وحين هبت نسمة باردة بعد ذلك تحولن إلى سعالي.
قالت السعلاة للسعلاة:
- )يلاك نخلط(.
وذهبن ما عدا عفاف.
كان المقهى الجامعي يغض بجماعات متوحشة .تخفي تحت ثيابها هراوات غليظة وما أن وصلت السعالى حتى هوت الهراوات على رؤسهن مشفوعة بكافة التعاويذ من الشياطين والسفلة.
ذلك السفين النوحى تفرق أيدي سبأ. كل دخان من الركاب مضى لحتف أو نجاة، هجرة، أو عصا، علبة أو أحشاء ذبابة.
كان سعد يهوى العلا لذلك صعد في هامة مدخنة لمصنع بالمنطقة الصناعية ثم احتار لأن النسمة الباردة هناك لا تمر. وأصبح أسير المدخنة كلما هم بالنزول اندفعت من فوهة المدخنة جماعات من الدخان الساخن فاختلطت به وسخرت من حاله.
وقبع في علاه الوحيش إلى أن جاءه الفرج يوما حين انقطع التيار الكهربائي عن المصنع وتوقفت الماكينات ووقعت )دخاناية( سعد خلال فوهة المدخنة إلى أسفل سافلين وارتطمت بالبلاط ثم صار صاحبها مسخاً ثم تحول إلى ضفدعة تعيسة رآها في حينها عامل برم بما يكسب فصاح فيها بصوت مسيلمة:
- )يا ضفدعة بنت ضفدعين، علام تنقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين(كذب مسيلمة ولم يكذب العامل ؛ إذ سحلها ثم داس عليها بنعل غليظ فماتت مأسوفاً على الإنسان الكامن فيها.
أما قسم الشرطي فقد تدحرج من سلم البص وانزلق على الأسفلت وتدحرج زمناً ليس بالقصير وعندما هبت النسمة الباردة جمد الدخان الذي كأنه الرجل إلى قنبلة مسيلة للدموع. دخان في حالة كمون مسكون بالضغينة وسوء النية.
حط دخان عطا بمستشفى للأمراض العصبية. حوله المصابون بالذهان والانفصام والهستيريا. جاء أخوه وجاءت أمه من أقصى الصعيد. قالت أمه:
-نوديك للشيخ صايم ديمة
قال عطا:
- لا.
كان عطا ذاهلا.ً عنقه كعنق دجاجة مريضة ولسانه معقود.كانت أمه ترى حال ابنها فتمرض تدريجياً وكان الطبيب إذ يزور ابنها يرمقها بنظرة تنم عن شكه في حالتها كما شك الملاك عزرائيل حين تبدى بمجلس سليمان عليه السلام في شخص وجده بالمجلس ومطلوب قبض روحه في الصين إلى آخر القصة.
كان عطا يسمع ويرى بعد أن عاد ابن حواء كما كان. ولكن قلبه ما فتئ يحاول الخروج من القفص الصدري.
كان قلب عطا يطرق باب القفص الصدري عسى أن يخرج:

  Reply With Quote
Old 01-23-2011, 06:04 AM   #43
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

- )دق(.
فيقول له عطا :
- مالك؟
فيقول القلب :
- دق .. دق .
فيرد عطا:
- ممنوع.
- )دقق.. دق(.
- كلا.
)دقق .. دق.. دق(.
خاف عطا وجن جنونه وهكذا أصبح وجوده مشروعاً في ذلك المستشفى.
وذات مساء سمع عطا نشرة محلية تعني بشؤون الموتى المفقودين )خرجت ولم تعد حتى الآن خادم الله جار النبي أوصافها كالآتي: خرج ولم يعد حتى مطلع الفجر سعد عوض، خرج عبدالمنعم، خرجت نعمات. خرج الخوارج.
دخل الدواخل(.
قفز عطا من سريره عارياً فتبعته أمه وتبعه أخوه هلعان وهما يصيحان:
- ارجع!
جرى عطا وقفز فوق السور العالي ثم قفز تجاه الشارع وصاح:
وجدتها وجدتها .
جرى وراءه رهط من الغرباء والممرضين. قال عطا :
- يا عالم وجدتها.. وجدتها.
قال غريب:
- وجدت ماذا؟.
قال عطا :
- وجدت الغازات السودانية. عثرت على أصلها وفصلها. وجدت سر اختفاء المفقودين سر خادم الله بت جار النبي.
وهز الجميع رؤوسهم أسفاً. ثم دلف خمسة أشخاص وممرض تجاه منتصف الدائرة حيث عطا. وأمسكوا به وهو زائغ البصر. رأت المشهد امرأة عجوز فضحكت وأبرزت سنيناتها حتى غضبت منها أم عطا. وقال عطا في سره.

- وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي اسيراً يمانياً
استسلم عطا لدموعه حين رأى عيني أمه الحزينة صاح فيها مشفقاً:
- كيف يجري نيلك؟.
كانت أم عطا من شاكلات الطير صبت في دجى بلعومه حين كان يافعاً، لون الصباح، وكان أبو عطا نهراً مرهوب الدواخل ولعطا صحب بهيون، عديلون، عنيفون، انتمائيون، من جنس الرياح وها هو الآن حطام شاب تمرده في لسانه لاغير. قال عطا:
- )يا للبشاعة
فلطمه رجل يتضايق من الكلمات وصاح فيه:
- اخرس.
ولكن عطا انهمر وهطل مطراً من الكلمات العنيفة. فصفعه الرجل حتى سكت عطا. لكن الرجل الغريب تمادى في اللطم والركل والصفع، لطم عطا ولطمه حتى وقعت من فكه سن مدمومة فأشار عطا لسنه المخلوعة على الأرض وصرخ:
- اتركني! وقع القمر.. وقع القمر!
ولكن الرجل الغريب ما تركه وقعت الأم من هول ما رأت على الأرض، بلا حراك وصرخ شقيقه وبعض السابلة بالصوت الجهير
- )لا(
ولكن الرجل الغريب ما ترك عطا.ضربه ضرب غرائب الأغنام.وهنا جاء الطوفان:
قال قلب عطا:
- دقق. دق. دق.
فقال عطا:
- ممكن.
قال قلبه:
- دقق. دق.
قال عطا:
- نعم
قال القلب:
- دق. دق
قال عطا:
- اخرجي .
قال القلب:
- دق.
ثم سكت. سكنت الحركة ذلك المساء. لا الشارع رأى عربة ولا العربات رأت زحاما.ً نام الناس قبل الكلاب. والقطط نامت قبل الفئران. تمدد النيل من الشاطئ للشاطئ ومد يديه فوق شبح المدينة النائمة وتثائب. عطف الحزن على الأزقة والحارات فغسلته الدموع.
في ذلك اليوم بكت السحب فوق طلل تلك المدينة بكاء الأطفال، ومع ذلك فإن سائل الحياة وماء ها يجري. وفوق ذاك فإن النيل ينيل، يرهد الرهد، ويدندر الدندر ويجيش القاش والعطبراوي يعطبر فهل من عاصم من التيارات ومن ملجم لهديرها؟ هيهات

• عبارة )والعطبراوي يعطبر( أضافها الأستاذ علي الملك، و)يجيش القاش( أضافها الأستاذ محمد
أحمد محمود كما أضاف الأستاذ أبوبكر الأمين كثيراً إلى صور ولغة هذه القصة وغيرها

  Reply With Quote
Old 03-06-2011, 05:20 AM   #44
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

الكتاب الثاني

أزرق اليمامة

د.بشرى الفاضل

الاهداء

إلى والدي الفاضل بخيت قرجة الذي رحل عن دنيانا في الخامسة والخمسين عام 1967 م
وإلى الأستاذ على المك الذي رحل عام 1992 في الخامسة والخمسين

إهداء

شاعران رحلا مبكراً في سن واحدة، لكن ماتركاه في وجداني وفي نفوس الكثيرين لن يرحل.

ولقد سئمتُ العيشَ مُراً بعد أن
دخلَ الكشامرُ حِلةَ الباجوري
خليل عجب الدور
انظري..
كلما نمنح الأرضَ حُبنا
تصبح الأرضُ منفى لنا
ولأشواقنا..
عبدالرحيم أبو ذكرى
ها أنتِ يا رزقاءْ
وحيدة عمياءْ
أمل دنقل

تقديم

ألعاب اللُّغة
عبر أحداث روائية مندغمة في نسيج الحياة اليومية ويتنوع المشاهد والمواقف والشخوص يظْهر بوضوح افتتان بشرى الفاضل الجّم باللغة، بطرائقها المركبة وديناميتها الواسعة بناء وصوتاً ومعنى. فهو يغوص بلا آخر في عمق طبقاتها المعجمية والدلالية، وتنوعاتها الصوتية، مبتكراً صيغاً جديدة ومجترحاً مفردات وتعابير ماهرة يخرجها من فورها لشرعية التداول دون أن تخضع لأي سلطة قاموسية أو بنائية. لنرى المنتخبات التالية من مجموعة "
أزرق اليمامة" ففي أقصوصة " المشنقة الأفقية" تطل مفردة "الطفابيع" وهي كائنات قميئة مصاصة دماء تحكم مدينة القصبة وتفتك بسلام أهلها، ومن ثم يذهب الكاتب إلى تصريف الكلمة بصور تأتي وكأنها اشتقاقات طبيعية، مستخدماً حسه اللغوي المرهف للوصول لظلال صوتية تدل على محمولات معنوية سالبة تنتجها أصوات الحروق "ط. ف. ب. و. ع" للوصول للمعنى القميء للكلمة ويستخدم ذات التأثير الصوتي الدلالي لاقتراح مفردة " الدواء -خانة" التي لا توفر أي دواء وبالتالي تتحول إلى "دواخانات" بكل درجات
الإشارة للمعنى الرديف. وتؤمن ألعاب اللغة تلك وسيلة أخرى للمعنى عن طريق استيلاد مفردات بخلق مشتركات توفيقية، فهو مثلاً يصف الدابة الحديدية التي يمتلكها الطفابيع
بأنها حيوان وآلة ليصل إلى "حيوالة". وفي حكاية أخرى تصحو مدينة ما وهي في حالة من الصياح والفوضى، فيندغم الهلع مع البسالة لينتج "الهبالة" ويمضي بشرى الفاضل متعمقاً في تلك الحيل اللغوية، ففي حكاية "زهرة" تنتظر الطفلة الحزينة شقيقها الغائب الذي صهين وصهين حتى أصبح " صهيونياً". ويذهب أيضاً ليخبرنا في حكاية أخرى أن "قلب إيناس عاقل وعقلها مقلوب" معتمداً على فنية هذا الشكل وقدرته الهائلة الإلماح. وهو كذلك يستخدم البعد التقني لصوت الحرف في محاكاة بيئية محضة للصوت حتى يخيّل لنا أننا نسمع صدى الكلمات والحروف عندما تكح حاجة السرة "كحة مضمومة أُه أُه" وعندما يلتفت البعير "باذل" والناقة "بازلاء" في قلب القحط والخواء كمن يستنكر أو
يسأل "آ. آ؟". وهو كذا لا يغفل خاصية الاقتصاد اللفظي في العامية بإطالة وتمديد الصوت للتعبير عن الاستغراق والإمعان في الصفة، فالبحر مثلاً شديد الزرقة " أزراااق" وحاجة السرة الخرفة "عجوووز".
لعل ما يعطي كتابة بشرى الفاضل تلك النكهة الأسلوبية الخاصة هو أن العامية تحضر في النصوص كقوة مضافة للغة القص، بما يجعلها تقف بكبرياء موقف الند أمام الفصحى، حتى أن الكاتب يكون نزاعاً إلى استخدامها لتوجيه موقف القارئ وللوقوف على الجزئيات بأناة محكمة، ولكشف العوالم الداخلية لشخوصها مما يضفي غنى وتعقيداً لبنية المعنى. كما أننا كثيراً ما نقع عليها مقترنة بتصاعد الخط الدرامي كأن يأتينا صوت محمود زاعقاً في "انفصال" : خلاص قفّلي ولا كلمة.
بتلك الممارسة الجمالية الواعية يسعى بشرى الفاضل إلى إعادة تعريف العامية كمنفذ خصيب للتعبير يسهم بقوة في تجويد البناء الداخلي للنص ويعمل على تماسك ملامحه، فاستخدام العامية في نصوصه لا يأتي كقطب مواز للفصحى وبالتالي كخصم يعمل على تصديع نسقها، وإنما تتمفصل قدرة اللغة ككيان جامع يتسع لثنائية الفصحى والعامية لتعملا معاً بتساوق تام يناسب مقتضى الفعل، حتى أننا نكاد نحس أنه ليس هناك قداسة لكيان الفصحى الآحادي وليس هنالك، كذلك، تنكر بيئي وتنازل ثقافي عن العامية، فالقاص يسترفد من معجم العامية بكل أناقة حضورها الإنساني كهوية لسانية ثقافية
شديدة الفصاحة والنفاذ، حتى أن المعنى الذي تؤديه المفردة العامية لا يمكن
أن يعوض بغيرها. ففي نص "عبدالقيوم الرأسي" بروحه الفانتازية العجائبية ينهض الجسم الفصيح من على سطح الماء «بشيش .. بشيش » وفي " ساقية جحا" يوصف الهادي معلم المرحلة المتوسطة بأنه «تمامة عدد » في تنظيمه السياسي، وفي نص آخر تنزل دموع الطفلة «كُبار.. كُبار » ، وهناك الحمار المنتحر المحتج على رهق العالم والذي يدخل النهر «تُوش »، وتطل أيضاً حاجة السرة التي تقف «دُتْ » في خاطرة السفر.
إنها شذرات من مدارات بشرى الفاضل المكتنزة والتي هي أداته الجمالية السحرية للمتعة والإفادة.

د. لمياء شمّت
عن جريدة الصحافة السودانية



أزرق اليمامة ...
أزرق الكتابة
أي المحاور منذورة لاكتمال الأحاديث في الروح أي المحاورات منذورة لافتكاك المواريث من رصد الصمت والصميم المحجر في رمم الوارثين حبر المحارات مخضوضر يتحلزن فيه وجيب الدواثر ولا صيد لي - في صباح الخليقة هذا - سوى غمغمة الدوى وثرثرة البحر
"طردية"
"محمد عفيفي مطر"


• ذات الكتابة تسعى نحو المعرفة لأنها منخرطة في التجربة والممارسة، وهي بذلك ذات مادية، غير محايدة، فاعلة في تحديد جهة التأريخ. ولأنها أرضية لاعلوية فهي اجتماعية، تحترف الانشقاق والنقصان . تهدف الكتابة إلى بلورة رؤية مغايرة للعالم، تستمد من المواجهة والتأسيس بنيتها الرئيسة .

محمد بنيس


"بيان الكتابة"
• في الليل كانوا يرسلون جماعات السجناء ليستروا بالطلاء الأبيض كلمات الاحتجاج التي كانت تكسو، في أوقات أخرى، جدران المدينة. غير أن المطر المتواصل، المثابر، يبدأ في إذابة الطلاء الأبيض. وهناك شيئاً فشيئاً تبزغ الكلمات العنيدة مرة أخرى.

"إدواردو جاليانو"

  Reply With Quote
Old 03-06-2011, 05:22 AM   #45
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

"مقبرة الكلمات"

للوهلة الأولى - والأخيرة؟ تبدو مجموعة بشرى الفاضل الأخيرة "أزرق اليمامة" وكأنها تتقهقر خطوات عن رائعته السابقة "حكاية البنت التي طارت عصافيرها" إذ يفتقد القارئ: تلك المخيلة الشرسة التي تؤسطر أدق مفردات اليومي، والعابر، تحيل ذيل هاهينا مخزن أحزان، وبشر المحطة الوسطى إلى غازات. يفتقد، أيضاً اندلاعات المجاز المفاجئة كبرق. "ذات مرة خرجت مليئاً بها حتى غازلني الناس في الشوارع"؛ انزياحها القصدى عن مسارات القص التقليدية: "قف! هذه نوافير من السائل الأحمر ترشح من المداخل والمخارج، وأخرى تنز من البطن المبقورة، هل هصرت الطماطم يوماً في عيني جارك
في معظم عام حتى سال إكسير حياتها، ذلك حال عبدالقيوم، ساعة شؤم رمت به راجلاً في طريق عام، وهو الراكب شبابه كله"، ذلك الانزياح الذي سيغرس بشرى جذوره، فيما بعد، بتربة: أحمد الفضل، عادل القصاص، أحمد الملك، أحمد المتوكل ليطرح ثماره البهيجة: اللغة التي لا تعتاش على السائد والمستهلك مبحرة صوب "نهش الغنائية الرتيبة" إذا استعرنا قولاً لبنيس في سياق آخر. حبلها السري الموصول عميقاً بطبقات ود ضيف الله وعبقرية المحكي الشعبي. انتهاكها المتعمد لقالبية النمط النحوي الإستاتيكي للجملة بغية فتح آماده حد الانفجار: "وصرت شديداً جداً أبكي". نزوعها الخارق لخلق أسطورتها الشخصية المنبثقة من غور الذات لا القواميس ناضجة بدمها الشخصي الذي لايشبه فصيلة أحد: "الطفابيع" حملة عبدالقيوم الانتقامية "الغازات" إلخ إلخ. في تلك الخصوصية التي أشار إليها الغيطاني غير مرة.
يفتقد أيضاً: خلخلة البديهي، والآسن كبحيرة "بقرة في الثوب البهيج". القدرة الفذة على ارتجال مفردات من سديم اللغة وعمائها: "الطفابيع، يدندر هاهينا .. "في هوس دائب لفتح آماد النص وراء المتعارف عليه دلاليا. اختراقات النص بفرشاة الرسم: "حكاية البنت" بغية كسر أسواره وتوسيع جغرافيته لتتسع لقارات أخرى، وهي الاختراقات التي ستبلغ مداها فيما بعد في "وجوه" لقاسم حداد وضياء الغزاوي" . وما فاجأ الكد: "وجرى دمعي لا كما يجري دمع امرأة .. ولكن كالتماسيح المفترى عليها" . وما يتأبى على الاختزال.
في هذه المجموعة تتزحزح سطوة اللغة -بأوسع ما تعنيه هذه المفردة الشائكة الدلالة - عن جمالياتها الفادحة المنبثقة عن مخيلة شرسة مفسحة الطريق لاحتضان اليومي بلغة تبدو في أغلب نماذجها، نمطية حتى، آخذة بيد القارئ صوب جماليات أخرى يجترحها بشرى الفاضل في هذه المجموعة، ليكتشف القارئ، رويداً ومندهشاً، ما يتخفى تحت هذه اللغة البريئة/ المخادعة من مغايرة ل "حكاية البنت ....".
اللغة، هنا، ليست منشغلة كما في "حكاية البنت..." بتشييد بنائها المتسامي بآليات عديدة على دمامة الواقع بحيث يتأمل القارئ في مرآتها مدى فجاجة الواقع، فظاظة قهره، لا معقوليته، هزليته، أي فضح فقره مقابل غنى النص، لكنها، اللغة، مهووسة هنا باقتناص هذا الواقع، بانحيازها الحازم لإنسانه المتخبط في أحبولته بلا فكاك. لم يعد النص قادراً على موازاة بعد أن انسرب ماء هذا الواقع لمسارب النص، لممراته الداخلية محاولاً الوصول إلى نواته متسلحاً بالسلطة في أقصى تمظهراتها عنفواناً: حلف العسكر/ الأيديولوجيا، فاختلفت جدلية النص/ الواقع بصورة بائنة، الشيء الذي نأمل الكشف عن
دواعيه، وتفحص آلياته لاحقاً.

بدءاً تقر هذه الثرثرة النقدية في حضرة صاحب البنت أنها لاتطمح لأكثر من كونها بهواً أولياً لساحة هذه العالم الخصب المكتنز لبشرى الفاضل في مجموعته "أزرق اليمامة"، دون أن نمنح مفردة بهو ذلك المعنى الهام الذي أسبغه عليها لوى بورخيس حين أسس للعنوان باعتباره بهواً للنص، أي مدخلاً أساسياً له، ولكن دون أن تنحدر، هذه الثرثرة، في الوقت نفسه لمهاوي الاستسهال البشع الذي طالما حذر منه بول فاليري ) 1871 - 1945 (. يتأبى عالم بشرى الفاضل كأي عالم مثقل بعناقيد التلقي، كما تتأبى لغته كأي لغة تختنق ببذاخة أعراسها، دون أن تنزلق لفخ الرنين، على الاستسلام السهل لمباضع
القراءة النقدية.
إنها نفس المعضلة التي واجهت ناقداً بقامة رمضان بسطاويسي عند محاولته النفاذ لعوالم ضياء الشرقاوي ) 1938 - 1970 ( حينها كتب "يعترف الباحث أن تجربة قراءة ضياء الشرقاوي كانت مضنية إلى حد كبير، فهي أعمال لاتمنح نفسها بسهولة لمن يتناولها. وقد عزا بسطاويسي الجمالية في بحث قاس متصل عن شروط مختلفة لجماليات القصة القصيرة.
استطراداً تقفز لذهن هذه القراءة القصة قصيرة التي كتبها بورخيس مع صديقه بيوي كازاريس عن ناقد يريد القيام بوصف الكوميديا الإلهية لدانتي: "وفي 23 شباط 1936 م كان يبدو أن كل شيء قد أصبح رائعاً لأن
وصف القصيدة يتطابق مع كلماتها .. وكتصور ذاتي ناضج ألغى المقدمة والهوامش والفهرست واسم وعنوان الناشر .. وقدم القصيدة نفسها للمطبعة. وتعلق الناقدة الأمريكية - اللاتينية د.ب. غالفر على قصة بورخيس بالقول أن مشاكل الحجم وحقوق المؤلف لم تسمح لها بالقيام بنفس الدور، سيما في أعمال بورخيس .. وللأسف يجب القيام بالمحاولة. نعم، للأسف، يجب القيام بالمحاولة.
إنها تلك الإشكالية الأزلية إذن: المتاهات السحيقة التي يغوي النص الناقد إليها، يجرجره لسراب الاكتشاف. علاقة النص/ الناقد تبدو لي مثل علاقة ودان إبراهيم الكوني مع وسوف "الحيوان الهائج يشد من جهة وهو يتشبث بالحجر من جهة أخرى. أحس بأن يده ستنسلخ وتنفصل عن كتفه، ولكنه ضغط على نفسه، ولم يتخل عن الحجر .. سائل يغمر وجهه: العرق، وسائل يغمر ركبته وساقيه: الدم أما ملابسه فقد بدأت تتمزق منذ أن بدأت المعركة في الوادي، اقتطعت منها الأحجار والأشجار التي مرا عليه في طريقهما إلى
معلقة في القمم". إنها أمثولة النص/ الناقد كما تتبدى لي في بعض حالاتها، ثمة علاقة أخرى تقوم بين النص والناقد هي علاقة الإغواء إذ يغوى النص الناقد، يُغريه بسهولة الاكتشاف والامتلاك، وفي نهاية المطاف يخرج الناقد
صفر اليدين منتحياً خيبته، مطأطئاً سيرته في الغياب. تدليلاً: فإن هذه المقاربة / الثرثرة النقدية التي بدأت سطورها الأولى عقب ظهور "أزرق اليمامة" لم يتح لها أن تكتمل إلا بعد عامين من ذلك، تعثرت بلا هوادة في عراء خيبتها وهي تجاهد للإمساك بالنسج الحي لعوالم بشرى الفاضل العصية، وفي النهاية اكتفت بملامسة سطح نصوص. "أزرق
اليمامة".
دون أن تجرؤ على النفاذ إلى دوامة الإغواء الباطنية للنصوص مرجئة ذلك إلى فرصة أخرى تتأجل باستمرار. وحتى لاتبدو هذه القراءة مفتقدة لمحاور ارتكازها فإنها تقترح المحاور
التالية لتفحصها، وهي محاور تمثل سمات أساسية - ضمن سمات عديدة أخرى لن نتطرق إليها هنا - وسمت هذه المجموعة وتؤسس خطابها الجمالي / الدلالي بتشابكها، وتقاطعاتها:
• استراتيجية العنونة.
• جدلية النص/ السلطة.
• الانحياز لليومي والهامشي لغة ودلالة.
• الأساطيري والغرائبي.

استراتيجية العنونة/ أزرق اليمامة

يحتل العنوان قطباً هاماً في الخطاب الأدبي والنقدي باعتباره مدخلاً أساسياً ندلف منه لدهاليز العمل الأدبي ومساراته المتعددة، وقد فرغ النقد الأدبي من اعتبار النص الأدبي يتضمن نصاً موازياً يفككه جيرار جينيت إلى:
- النص المحيط: الذي يتضمن فضاء النص من عنوان ومقدمة وعناوين فرعية، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب ككلمة الناشر.
- النص الفوقي: وتندرج تحته كل الخطابات خارج الكتاب المتعلقة به والدائرة في فلكه.

ويرى ميشيل حليفي: "إن العنوان مرجع يتضمن بداخله العلامة والرمز، وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته، أي أنه المتحركة التي خاط المؤلف نسيج النص عليها". كما يذهب إلى أن العنوان في التوجه البلاغي الجديد فضلاً عن أنه مفكر فيه "ينجز معنى باطنياً يشكل النواة - البؤرة للعمل الأدبي من خلال إمساكه بمجموعة النسيج النصي في تقاطعاته وتغذيته للقراءة والتأويل". يشف العنوان عن مدى تقليدية النص، أو حداثته، عن الزاوية التي اختارها المعنون لتبئير نصه، وأيضاً عن علاقة
التناص التي يقيمها مع النصوص الأخرى.
في عناوينه السابقة كان بشرى ينزع لعنونة تنزاح عن السائد، تنز باكتناز دلالي وبنائي يؤسس لهذه المغايرة الانزياح: "بقرة في زمن الثوب البهيج"، "حكاية البنت التي طارت عصافيرها"، "ذيل هاهينا مخزن أحزان". في عنونة مثل "حكاية البنت التي طارت عصافيرها" كان يتم اختراق محور العادي فعبارة "حكاية البنت" المتماهية مع الحكي الشعبي دلالياً وبنائياً سرعان ما يتم اختراقها عبر أسلوبية الإحراف فتنتقل من مستوى المحكي الشعبي إلى مستوى الأسطوري، الغرائبي، المجازي، المتخيل بعبارة "التي طارت عصافيرها"، الشيء الذي يمكن قوله عن أغلب عناوين المجموعة. مما يشف عن إنحياز للأساطيري والغرائبي في بناء مواز للعالم الواقعي يقيمه مقابل قصة التفاصيل
والحياة اليومية التي أغرقتنا بآلاف القصص "الواقعية". في العنوان "أزرق اليمامة" يمكننا أن نرصد استراتيجيات نصية مغايرة في العنونة تتمثل فيما يلي

  Reply With Quote
Old 03-06-2011, 05:23 AM   #46
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

التصحيف الدلالي للموروث:
العنوان الرئيسي للمجموعة "أزرق اليمامة" يشف عن تصحيف دلالي وبنائي للموروث، فهو لايعني باجترار دلالات هذا الموروث "زرقاء اليمامة" والتي استهلكت في الخطاب الشعري المعاصر كدلالة على استشراف المستقبل،وتلمس إشاراته ونذره من خلال سجوف الحاضر وحجبه، وهي دلالاتاستهلكت حتى دائرة الانغلاق، مما أدى إلى تسطيح الرمز وضموره، وفقدانهلطاقته الإيحائية، وتنميطه، حتى صار من السهل على القارئ -غير المتمرس حتى- فك شفرته وفضح عراء القصيدة وتسطحها. ينهض العنوان هنا "أزرق اليمامة" لا لاجترار هذا الموروث، أو حتى استلهامه، بل لاكتشاف وجهه الآخر المقلوب الذي أفلت من ذهنية الساكن والمنمط، ففي مقابل زرقاء اليمامةباستشرافها المهيب للمستقبل، يقيم بشرى نموذجه المسحوق أزرق اليمامة الذي ينتمي زمانياً ومكانياً لنا ف "طي بؤس كهذا، في حرز قمقم كهذا ..
وحولك في مركز المدينة يصخبون أو يقودون أو ينقادون لبائسين مثلهم"، في ظل واقع ضاغط بكلكله كهذا لامجال لزرقاء اليمامة، هذا التحريف للموروثمرتبط بالانحياز للمهمش، العادي، المقهور على كافة الأصعدة، واضعاً القارئتواً في بؤرة النص، ونواته المركزية، مرسخاً لملامح البطل/ اللا بطل الذي كف في الخطاب الأدبي الحديث عن بطولاته الشاهقة.
هذا التصحيف الدلالي للموروث يلتقى بمثيلات له في المجموعة ففي مقابل "التقاء الساكين" النحوي، الساكنان اللذان لايلتقيان، يلتقي ساكناً بشرى، أي جاراه الساكنان، يتم التصحيف هنا باستراتيجية بلاغية: حذف الموصوف وإقامة الصفة مكانها للإيهام. أيضاً يمكن نرصد "دمعة بالبصل" في تورية ساخرة للمحكي الشعبي، هذا التصحيف الذي يمد جذوره لمجموعته السابقة" ، "حكاية البنت... " حيث نجد "حمامة فرت من قسورة" في تناصمع الآية القرآنية، كما نجد عنونة "حملة عبدالقيوم الانتقامية" في تناص مع
التاريخي "حملة الدفتردار الانتقامية" في ابتعاد لمدلول الثأر الشخصي الذي
يطال الجميع.

الإنحياز الحازم للعادي:

تشف معظم عناوين هذه المجموعة عن انحيازها للعادي كما ألمحنا، نجد "قبلالغروب " "دمعة بالبصل"، "ساقية جحا"، "ملهوف" "انفصال" "اللقمة" "المرأة المتمحركة" "التكريم" إلخ إلخ، وهو انحياز له دلالاته في ظل وطأة فظاظة الواقع التسعيني في السودان، إنه انحياز للعادي ليس على مستوى الدلالة فحسب، بل على مستوى المفردة وصياغة الجملة أي على المستوى البنائي أيضاً، انزاحت العناوين هنا عن استراتيجيات المغايرة في عناوينه الأولى "الطفابيع" ذيل هاهينا مخزن أحزان" إلخ.. إلخ . عناوين قليلة أفلتت من قبضة العادي في هذه المجموعة: "المشنقة الأفقية" ، "عبدالقيوم الرأسي"، هذا الانحياز للعادي له دواعيه وآلياته العميقة التي نأمل الكشف عنها لاحقاً في حديثنا عن جدلية النص/السلطة.

جدلية النص / السلطة

تتبدى السلطة هماً ممضاً في مجمل نصوص الحداثة العربية، حتى في أنصع نماذجها. تنوء السلطة بكلكها على عصب الكتابة العربية، يقول د. كمال أبو ديب: «تبدو الحداثة مسكونة بالسلطة، بل إنها لتبدو مشبوحة بالسلطة، بعنفها وتعسفها وبربريتها، تصبح السلطة بيت الحداثة الذي فيه تنمو، وأفقها الذي تحته تتحرك وتنتفض ». ويدير النص صراعه مع السلطة
-الصراع الذي يزداد حدة مع تفاقم الوعي بقهر الواقع، وتطوير السلطة لآليات قمعها -عبر استراتيجياته العديدة التي لن نعني بخوض تفاصيلها الآن، ويكاد أبو ديب يخلص أدب الحداثة في جذوره وتفرعات أغصانه باعتباره «تجسيداً لوعي ضدي يشتبك في صراع لايني مع هذا البعد المدمر للسلطة ». السلطة التي يكاد ينقلها فوكو إلى مصاف المتعالي حينما يصفها ب «الشيء الملغز، المرئي واللامرئي في آن، الحاضر والغائب، المستثمر في كل مكان .»
2--1 يبدو الوضع في السودان أكثر حدة، إذ انشبك الهم السياسي بالثقافي عبر فترات طويلة في تاريخ السودان، وازداد هذا الانشباك ضراوة في ظل السلطات الدكتاتورية التي استولت على دست الحكم لفترات طويلة تنيف على الثلاثين عاماً بعد الاستقلال، وقد أشار د. حيدر إبراهيم في مقدمته للعدد الذي خصصت "كتابات سودانية" محوره ل "الإبداع في السودان": إلى ذلكبقوله «لسوء حظ الشعر السوداني طغى السياسي على الفنان والشاعر فيصلاح، واستنزف الشاعر صلاح لغته ورؤاه وصوره وخياله في المعارك السياسية غيرالمجدية ». ماأشار إليه د. حيدر يمكن سحبه على قطاع من الكتابة الثقافية في السودان، وإن كان هذا لا ينفي وجود عدد واسع مع النصوص التي أدارت حوارها مع السلطة في مختلف تجلياتها دون أن تتزحزح عن جمالياتها وذلك عبر آليات عديدة: تثوير بنية اللغة، دحر سلطويتها ونمطيتها التي تعممها السلطة، استثمار طاقات الرمز، إذابة الدلالي في مختبر اللغة بحيث ينقله من مستوى الحدث/ الواقع إلى مستوى الرمز/ المجاز، انغراسها في غور الشعبي واللغة المحكية والمسكوت عنه، امتياحها من الكوني والإنساني، كما تمثل في نصوص القدال، محمد المكي إبراهيم، محمد الحسن سالم حميد، قاسم أبو زيد، يحيى فضل الله، أزهري الحاج علي، هاشم صديق، الصادق الرضي،
عاطف خيري، إلخ إلخ.

3--1 لايمكن تفسير هذه الحدة الدلالية التي وسمت الخطاب القصصي ل "أزرق اليمامة"، الذي نشرت نصوصه في التسعينات، دون أن نحيل هذه المقاربة لما هو خارج الخطاب الأدبي، لسودان التسعينات الذي دهمنا فيه كابوس الإنقاذ في يونيو 1989 . باشتداد قبضة السلطة تحكماً اشتدت ضراوة صراع النص معها شحذ النص سكاكينه، اشتدت قبضة السلطة بتحالف الأكليروس/ العسكر، التحالف الأشد سطوة على الحياة المدنية في أصغر جزئياتها: باستهداف نواة الإنسان السوداني لتغييرها، بتعدد مطارق قمعه، بالتباس السياسي بالديني، بالهوس الدائم لتمرير خطاب غيبي، لاعقلاني، يتوسل بالجذور إلخ إلخ، هذا المناخ القمعي طال بشرى الفاضل على المستويين الشخصي والإبداعي.

4--1 لانتفيأ، هنا، قراءة النص على ضوء الواقع في قراءة إسقاطية تفرغ النص من غناه الباطني، وشفراته الخاصة: أي أدبيته التي تمنحه صك شرعيته، المأزق الذي ينزلق إليه الإيديولوجي عادة، إنما نتفيأ قراءته قراءة تأويلية تساهم "بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يحملها أو يتحملها الخطاب في محاولة لإعادة بناء ذلك الخطاب بشكل يجعله أكثر تماسكاً في إحدى وجهات النظر يحملها"، نتفيأ تفحص التقنيات النصية التي أدار بها النص حواره مع الواقع دون أن يسقط في أحبولته.

5--1 ثمة مرارة مقطرة تغلف مجمل الخطاب القصصي لبشرى الفاضل، مرارة لاتخفف منها السخرية بل تزيد أوارها اشتعالاً، تتعدد تجليات هذه المرارة، وإن كانت تنبثق من منبع واحد: القهر، القهر، الذي يطال الحياة حتى أصغر جزئياتها، يتم التعبير عن هذه المرارة باستراتيجيات تتمثل فيما يلي:

الأنسنة:
في نصوص عديدة لبشرى الفاضل يمكن أن نرصد هذه الخاصية، إسباغ الدلالة على الشيء، على الحيوان، وتحويله إلى رمز مثقل بالدلالات، غالباً ما يتم ذلك بقصد تصوير المقاومة البطولية للقهر، إذ لا أحد بمنجاة عن لهب الشر "فعذاب الروح واحد"، لايتم ذلك على مستوى مضمر النص فقط، بل على مستواه الظاهري أيضاً، فالحمار الذي توغل في الماء لينتحر ارتفع نهيقه الأخير ك "احتجاج جهير ضد رهق العالم"، تحول إلى أليجوريا تختزن دلالات مقاومة القهر، الشيء الذي يمكن قوله أيضاً عن العصفور في "القمة"، والبعير والناقة في "انتحار البعير الناقة

  Reply With Quote
Old 03-06-2011, 05:23 AM   #47
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

النفي والاغتراب:
ألمحنا أن "أزرق اليمامة" تأتي انحيازاً للعادي، والمهمش، فأزرق اليمامة لايضطلع بذلك الاستشراف المهيب للمستقبل مثلما زرقاء اليمامة، قصارى جهده أن يستشرف مستقبله هو، منقباً عن كوى من الضوء تنير عزلته، عن قطرة واحدة تندى حياته الجافة التي تزلزلت تحت قساوة واقع لايطاق، سيما مع تفاقم الوعي بوطأته، إن استشرافه أساساً لإشباع حاجاته الأولية التي قمعتها مطارق الواقع. أزرق اليمامة، محمود، لايلبث أن ينزاح للهامش، إنها مأساة الذات المزاحة بفعل القهر عن مركز الفاعلية الإنسانية، مما يسلمها
رويداً إلى اغتراب حقيقي، الاغتراب هنا ليس بالمعنى الفلسفي أو الوجودي الذي تهيمن فيه قدرية كونية غامضة، مثلما عند عبدالصبور مثلاً "تعالى الله هذا الكون موبؤ ولا برء"، إنما بالمعنى السيسيولوجي، السياسي، ومن ثم لن يتبقى لأزرق اليمامة من هامش لممارسة حريته سوى أحلام يقظته المصادرة بكوابيس النهار "وهكذا أسلم محمود نفسه لهذه الظلال الحية". وحتى يكتمل غيابه، اغترابه، يتشيأ محمود "أصبح جسمك سيداً للمكان وشعرت بمنعة وجيشان .. ولمست بيدك الضخمة التي تشبه جذع شجرة وجهك الذي استدار وانتفخ فأصبح كبطن فيل. عيناك هناك .. هناك .. قمران .. كشافتان". هذا التشيؤ المخترق بلمسات إنسانية، خطوة أخيرة للاستلاب والأيلولة للافاعلية، الإنسجان في قمقم الشيء، لكن حيويته فقط أنقذته من صمم التشيؤ "وألهب محمود خيال تلاميذه فكف عن الرياضيات وصار يحيرهم بكشفه الباهر واختلط حابل الحصص بنابل الحياة فأصبح محمود يدرس مادة واحدة أولها رياضيات اسمها الكون". يكتمل نفي الفرد في "أزرق اليمامة" بالسجن، السجن الذي تمارس فيه السلطة أنقى درجات قمعها، ففي السجن «تكف السلطة أن تتخفى، يسقط قناعها، وتظهر كيف أنها طغيان مندفع في التفاصيل الأشد تفاهة، هي ذاتها وبكل وقاحة، وفي الوقت نفسه كيف هي نقية، مبررة كلية، طالما أنها تستطيع
صياغة نفسها كلية داخل أخلاق تؤطر ممارستها أنئذ يظهر طغيانها وكأنه سيطرة خالصة للخير على الشر »، هو صورة السلطة الأكثر هذياناً بتعبير فوكو.
في "المشنقة الأفقية" ينفجر صراع النص مع السلطة في أكثر بقاعها يباساً: السجن -الذي يطال حتى أولئك الذين ظلوا بمعزل عن كل شيء كمختار - الجانبي- في إشارة إلى أخطبوط الشر الذي لايكاد ينجو منه أحد -عبر بنية غرائبية السجن، ولامعقوليته، في إطار كابوسي له جذوره الواقعية «وأقبل الأطفابوعيون على الدم يتلمظون، ترجف شفاههم وتلمع عيونهم لدى رؤيته »، ويأتي التعذيب من قلب هذا الكابوس «وكذا نفق مختار . لم
يكن موته سهلاً - ففي البداية مطوه حتى تهتكت أنسجة عضلات البطن والصدر والأيدي والرقبة، ثم أصيب بنزيف داخلي أدخله في إغماءة أعفته من الآلام حين انفصلت الرقبة. مرت مأساة الرقبة بمراحل. في البدء تقطعت أوصال الأعصاب والعضلات، ثم تهتكت الأنسجة فانقطع اللحم عن العظم، ثم انفصلت السلسلة الفقرية فأصبحت هناك عظمتان بينهما دم تجمع في الجمامة بينهما. أما الجلد فلم يتمزق... » موصوفاً بلغة حيادية بدقة جراح، مرسخاً لمدة ثقله، الوصف لايتم خارجياً على نحو ميتافيزيقي، أو عاطفي إنما يتم بهذه الدقة الحيادية مستثمراً استراتيجية الارتكاس inversion عبر إبعاد النزعة العاطفية من قلب المشهد ليبقى المتلقي في حالة انتباه كلي للنص، انتباه يقظ واع دون استلاب عاطفي أو مصادرة، ليكمل القارئ، دون بكاء، عناصر الصورة المكونة لعذابات مختار، وانسحاقه الكلي تحت جبروت القهر.

الأسطرة:
لن نتفيأ هنا تقصي استراتيجية الأسطرة التي تجلت بشكل باهر في مجموعة "حكاية البنت التي طارت عصافيرها"، وشحبت في مجموعة "أزرق اليمامة" بسبب طبيعة حوارها مع الواقع، وتبنيها لاستراتيجيات نصية مختلفة .. فهذا يستلزم دراسة موسعة، منفصلة، تستقصى اشتغالها المدهش في مجمل
أعمال بشرى سيما في "حكاية البنت...".
تقلصت سطوة الأساطيري كثيراً في هذه المجموعة، وإن كانت قد برزت في ثلاثة نصوص هي: "أسطورة البحر السفين"، "انتحار البعير والناقة"، عبدالقيوم الرأسي"، بالإضافة إلى نص "جيم حاء خاء" الذي مزج بشكل باهر بين الواقعي والغرائبي عبر انفجار النص ضد السلطة ممثلة في واحدة من أهم آلياتها:

الخطابة بما هي خطاب لاعقلاني، عاطفي، انتهازي ولأننا لن نتفيأ، هنا تتبع آليات عمل الأسطورة في مجمل أعمال بشرى الفاضل، كما أشرنا، فحسبنا أن نشير إلى آلية واحدة تعمل بها الأسطورة عند بشرى الفاضل وذلك للكشف عن إحدى استراتيجياته النصية في التعامل مع القهر باعتباره اختلافاً. فإذا كان إدوار جاليانو مثلاً يعمل على رد الطاغية إلى عاديته، وضعه في مصاف العادي مصنفاً إياه كموظف بائس، مجرد جرو بيروقراطي تمهيداً لمواجهته، ومن ثم سحقه: "ممارس التعذيب موظف. الديكتاتور موظف. إنهما بيروقراطيان مسلحان سوف يفقدان مهنتهما إن لم ينجزاها بشكل فعال. إنهما ليسا أكثر
من ذلك. ليسا مسوخاً فوق العادة. ونحن لن نمنحهما ذلك الامتياز "فإن بشرى الفاضل، على نحو مغاير، يحوله إلى مسخ تمهيداً لتحويله إلى اختلاق محض عبر استراتيجية الأسطرة.
يقول د. محمد عصفور: «يمكننا أن نترجم مصطلح "الكذبة" بكلمتين أخريين لاتفزعاننا هما "الأسطورة" و"القصة القصيرة" فلو قلنا مثلاً إن العنقاء أسطورة من الأساطير فإن المعنى المباشر للكلمة هو أنها كذبة -أي أن العنقاء لا وجود لها، لكن هذا القول لايعني أن معنى الأسطورة كاذب. فمعنى التجدد
من خلال الاحتراق معنى نقبله على أنه ذو دلالات عميقة .» على ضوء ملاحظة عصفور هذه يمكن أن نقرأ في المشنقة الأفقية: «وكانت ستمضي الحياة بمختار إلى غايتها دون ضجيج لولا ظهور الطفابيع في مدينة القصبة . استقامت الشمس عمودية طوال السنين التي مكثوا فيها حاكمين)حكم الطفابيع لسنوات قليلة( . ولكن الطفابيع هزمتهم بصورة حاسمة خراطيم المياه. فقد اكتشف طفل من أبناء القصبة أن الطفابيع يخافون من الماء مثل الكلاب المسعورة . وما أن بدأت الحملة حتى تساقط الطفابيع كذباب في حضور مبيد حشري عنيد. .»
يؤسطر بشرى الطغيان هنا، يجرجره لأحبولة الغرائبي من أجل تحويله إلى اختلاق محض يؤول في المطاف الأخير إلى كذبة لا أساس لها في الواقع الفعلي،وذلك لفضح مدى هشاشته، ونصاعة حضوره الفج كما نلمح في إشارات النص المتناثرة: «اكتشف طفل « ، .. » كذباب .. » إلخ إلخ، هكذا يتم جرجرة القهر إلى متاهة منسوجة من حبائل اللغة، تضليله في الدروب المتشابكة للغة، لمتاهاتها العصية، حيث ينزلق تدريجياً لهوة النسيان: «حكم الطفابيع لسنوات قليلة » ولذا كان من الطبيعي أن يعلق الراوي «قصة اندحار الطفابيع فكهة »، أي عبثية لتليق بهم.
هذه المقاربة/ الثرثرة النقدية التي حاولت إضاءة بعض التقنيات النصية للخطاب القصصي عن مدى تفرده ومغايرته للخطاب القصصي الشائع، ولا إنصياعه لموات كتابة يعاد استنساخها في دائرة لانهائية الملل تأتي، أيضاً، احتفاء بقاص كبير تأخر الاحتفاء به كثيراً، نأمل أن تتلوها مقاربات أخرى تقارب الخطاب الأدبي السوداني، سيما المضمر منه، بعدها نأمل أن تخفت، ولو قليلاً، الأصوات التي ظلت تلهج باسم الطيب صالح لمدة تنيف عن ثلث قرنباعتباره درتنا اليتيمة، مختزلة -هذه الأصوات- كتابة أمة بأسرها في فرد.

• د. هاشم ميرغني

  Reply With Quote
Old 03-19-2011, 06:44 AM   #48
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

بقرة في زمن الثوب البهيج

د.بشرى الفاضل

درديري زميلنا أنا وطيفور. جئنا في زيارة له بقريته بعد إلحاح منه فنحن
معاً لا نستطيع أن نأكل الكسرة المرة في الوجبات الثلاث، ودرديري يغيظنا
مغتاظاً وننبهه لملاريا الجزيرة التي تأتي بها حشرات تشبه الضفادع، قال طيفور
ينبغي مغالطة القاموس أن أسماها بالناموس.
حكى الدرديري ونحن في بطن حقل الذرة، والريح طينٌ مرويٌّ والقرية
وراءنا ، صياح وثغاء والمعضلات أمامنا فقال:
- كان قلبي في طفولتي جامحاً، أجنحته رنين الكلمات. وكانت طيور
خيالي وخيدعي، تطرق أبواب الكون الهائل، وتخسف مرتدة في رحم الأرض،
حيث ترى عظماً متآكلاً هنا وحجراً هناك أو تشهد العمليات الجنينية لنشوء
جذور النباتات. ) قاطعناه وواصل( كنت أظن أن الحكومة هي عربة الجيب
)ضحكنا( وكلمة مدينة لدي تعني الفرح. أما الفرح فهو عندي ثوب بهيج
الألوان، صارخها، مضمخ بعطر ) الصاروخ( الحاد الفواح.
) جلجل طيفور بالضحك وناكف درديري وهو مع نوادره وملحه فمزاجه
متقلب.فطلبت من طيفور الصمت ففعل(.
- وهكذا اتفق – واصل درديري – أن اشترى والدي بقرة سمينة وضخمة
ووسيمة. وكانت تلك أول شيء بمثل هذه الضخامة يلج بيتنا المتعب.وبديهي

أن البقرة حين شارفت صحن دارنا، أربكت شعر جلدي إذ قام تعظيماً لها. كان
والدي منشغلاً عنها. وكنت أعجب لذلك. أدخلها بمساعدة عبدالرازق الراعي
ثم هرع سريعاً للديوان. يشارك أخوتي – ممن هم أكبر مني– الاستماع. كانت
القرية وقتها في حالة استنفار. ألف مواطن وعشرون مذياعاً. وأشهد بعيني
طفل كيف كان المزارعون – ومن بينهم والدي – يتحلقون جماعات جماعات،
حول المذياع يستمعون إلى لغة تستعصي علينا ثم تدوي الأغاني المختلفة قليلاً
عن "لو بهمسة".
)دندن طيفور باللحن فور سماع عنوانه وعنفته. دار عراك كلامي اتفقنا
سوياً في نهايته على الصمت(.وواصل درديري:
- حين ولجت البقرة دارنا كان يوماً مشهوداً. وتسمع لفظ أكتوبر خمسين
مرة. ويسرح خيالك مرة أخرى نحو ثوب مزركش يعبق برائحة الصندل
المخلوط بعطر "بنت السودان". وفي المساء عندما حلبوا البقرة خطبت
والدتي ومدحت ضرع الوافدة الميمونة. وسمع والدي مديح والدتي للبقرة
فابتسم. كأن المديح موجه إليه. وحين كبرت علمت أن تلك الابتسامة إنما
هي ترجمة للسرور والرضا، عن الفعل الذي يجلب البهجة للزوج والولد.
قالت والدتي:
- مبروكة
ثم أعطتنا لبنا؟ كثيراً جداً وساخناً. وشربنا منه حتى تململت الأواني في أيدينا.
وقالت والدتي:
- كفاكم
ثم أردفت :
-بنفعكم
أحمد ما شرب اللبن. وحين أوشكنا على النوم ظل يغيظنا صائحاً وهو مدثر:
- مياو.. مياو
ويغتاظ عبدالله ويضربه. ثم:
- ناو.
فيصب عبدالله كوباً من الماء البارد في وجهه. فتسكت القطة في أحمد
غاضبة أو تستحيل كلباً.في الصباحات كانت تشدني أغنية تقول )أصبح الصبح(.
وكنت أفهم أن ذلك الصوت الراقي يعلن لنا أن يوماً جديداً قد أزف. وعندما
يحل المساء أسمع مرة أخرى "أصبح الصبح" .عجبت جداً أول الأمر، وقلت
هذا الرجل كاذب. الدنيا ليل وهو يقول أصبح الصبح وسألت والدي فنظر
في وجهي ملياً لا شك أنه كان حائراً. ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وقربني
إليه ثم قال لي بصوت خفيض كأنه يخاطب رجلاً كبيرا:
- البلد حاصلة فيها كركبة.
لم أفهم ولكن طيور خيالي حال سماع لفظ البلد طارت نحو الحواشات وكلمة
كركبة ذكرتني )بالكراكة أم دلو(. اختلط فرح الناس بفرح أمي وأخوتي
وفرحي بالبقرة فصارت على مر السنين عندي مقرونة بأحاسيس تلك الأيام.
وكلما سمعت نشيداً تذكرت بقرتنا تلك بل كانت أكتوبر أيامها تعني لي "
الثوب المزركش الذي اشتراه أبي لأمي ورائحة )السيد علي( في زمن دخول
البقرة لحظيرتها". وعندما كبرت وعرفت المعنى الضخم لأكتوبر خجلت من
ضيق أفقي الذي جعل من سماء الثورة اللامحدودة، خرقة قماش محدودة
بتسع ياردات. كانت السنوات الست أو السبع التي تلت عام البقرة مؤرخة
بنشاطها وحوادثها. تقول والدتي لوالدي:
- متين جاك الطرد من تاج الدين قبال وللا بعد اشترينا البقرة؟
ويجيبها والدي
- وكت البقرة طرحت.
وتسألني والدتي أو تسأل أحمد وعبدالله: أسوي ليكم شاي؟
- لا. بعد ما نعشي البقرة ويحلبوها.
دخلت تلك المرهاء أم غرة حياتنا، ملأت علينا فراغ الطفولة الشقية
بالعمل، وملأت معداتنا العفويات باللبن وشرايينا بالدم.
ومن عجب أنني شعرت بتحسن في مستواي الدراسي تلك الأيام بفعل
لبن البقرة. )ضحكنا طيفور وأنا.. وواصل درديري(: سررت لهذا الاكتشاف
وصرت أنتبه له وأجريت المعادلات الرياضية التافهة الكبيرة وقتها: كوب لبن
= حل مسألة حساب؛ كوبان = حل المسائل كلها وحفظ سورة في الصبح؛ ثلاثة
أكواب= قراءة مقرر التاريخ وفهمه. فهم التاريخ يا للاكتشاف المذهل. وفي
ذات يوم قررت شرب عشرة أكواب. وقلت حينها لنفسي سأشرب كمية من
اللبن تمكنني من الانتقال من السنة الثانية الوسطى للثانويات مباشرة – وكنت
تلميذاً خارجياً - وشربت الأكواب العشرة سراً ذلك المساء وبدلاً من دخول
الثانوية دخلت المستشفى.
مرت سنوات. ثم كبرت، وكبرت البقرة فأصبحت رمزاً للوفاء. نقدم طعامها
رغم أنها هرمت ولم يهرم النشيد. لم تعد تلد. وبدلاً من أن يلتقي جيل البطولات
بجيل تضحياتها التي كانت تساق للذبح؛ التقى ظلفها بحجر فتلبس الأخير
فيه ثم حل بالقرية الطاعون البقري فنفقت البقرة الأمثولة.
لو علمت بي جماعة الرفق بالحيوان لمنحتني وساماً. ما بكى مثل بكائي
خريف ناجح، ولا بكى شجر بامتداد رصيف بدمعه الأصفر أغزر من بكائي
عليها. بقرة الحسن والوسامة، بقرة الصحة والإجابات الصحيحة في امتحان
الانجليزية بقرة الفرنسية وبقرة الجغرافيا. كان شباب قريتنا أيام حماسهم
بالعهد الجديد قد كونوا جمعية لحرق الحيوانات النافقة اجتمعوا ومن بعد
تناقلت القرية لسنوات محضر ذلك الاجتماع الشفاهي.
- بلدتنا، قال معروف، تحتاج للنظافة العامة وحرق القاذورات واجب
عاجل. اقترح أن نحرق البهائم الميتة.
- اقترح نعمل مقبرة للحيوانات – قال برعي – لأنو الدين يحرم حرق
الجثث ونحن ما بوذيين و..
- يحرم؟ - جيب لي دليل بي آية واللا حديث
رد عليه معروف.وتجاذب الشباب المشروع واشتد الحوار واحتدم ثم
أوشك الشجار السياسي أن ينفجر. انتصر رأي معروف. وقال معظم الشباب:
دفن البقرة يحتاج لحفرة بحجم صهريج الماء؛ اولبقرة ليست انساناً. وصاح
مختار الجانبي – وهو شاب طريف يهتم من كل مسألة بأطرافها الثانوية:
- انتو تعالوا النسعلكم البوذيين البقول عليهم برعي ديل شنو؟
قال معروف نحرق الحيوانات النافقة درءاً للأمراض وتخليصاً للقرية من
سور الروائح النتنة الذي يطوقها كحوش السجن الكبير. وهكذا تم حرق كل
حيوان مات في السنة أو السنتين اللتين تليتا الثورة. ثم بدأ حماس جمعية
حرق الحيوانات النافقة يفتر.خرج من عضويتها في تلك الآونة حسين وكان
يرعى مقاطعاً مع عوض الجيد الضاحك منذ أيامها الأولى. ثم خرج على الطاهر
وعثمان حسن السر. والبقية مات نشاط الجمعية دون خروجهم. فكأنما الأمر
والحال هذه حال قوم غطتهم قطية منهارة. مضت سنوات ونسينا الجمعية.
وهكذا عادت حليمة لقديمها ونفقت بقرة بت علي ولم يحرقها أحد. بل خرج
أهلها وألقوها في الأرض البور قرب مشارف القرية ثم نفقت بقرة حاج الطاهر
ثم بقرتنا وحدث الشيء نفسه، خرجت خلف جنازة بقرتنا وأنا ممنوع من
الاقتراب أو التصوير بفعل زجرة. فقط خلفها. وحين وضعوا جثتها المنتفخة
فوق الكارو، انحدرت من عيني دمعة.
مضى يوم وليلة على فقدي الممض للبقرة. خرجت وكنت قد شببت عن
الطوق وأصبحت شاباً له أنفة وحدة وفتونة. رأيت المدينة عنابها وعذابها.
خرجت وقد أدخلت يدي في تجاويف بنطالي . أقدل كرعاة البقر الأمريكيين.
قالت والدتي: وين ماشي؟
قلت لها:
- طالع للخلاء مثلي مثل الناس.
قالت:
- يا ولدي الدنيا ظلام. ارجع.
فلم اسمع ورددت العبارة المألوفة:
- ) طالع زي الناس(.
عند مشارف القرية أبصرت جثة بقرتنا. تبدو أكبر من حجمها ومعلقة
كسفينة على الأفق أمعنت النظر فرأيت كائنات تتحرك حول الجثة. ولم يكن
المرء يتطلب تفكيراً على نحو ما ليدرك أن السوائم تلك ما هي إلا كلاب.اقتربت
حتى بقيت مائة خطوة. نعم كلاب. يا للهول ! سبعة كلاب بنية جميعها
وضخمة، كأن الواحد منها جحش، عيونها البراقة متيقظة وتبدو أجفان عيونها
في الظلمة كأجفان شخص متعب. تتحرك فيما بينها بسرعة كأنها حشرات في ماء
راكد، ككائنات الترع. دنوت أكثر. نعم. هي في حالة عراك دموي. تتحلق حول
الفريسة. كل كلب يقاتل كل كلب ليفوز بالغنيمة وحده. وهي إن اشتركت
لتركت بقاياها للعقبان من فرط الشبع ولكن الوحوش لم تسمع بقانون عدالة
التوزيع. هذه الوحوش الغاضبة تستخدم قنابلها الصوتية البشعة وأنيابها التي
تشبه دلو الجرافة )الكراكة( التي تقبع منذ المهدية في ترعة القرية. كلاب
كهذه ما رأيت. ولا كصنفها ضخامة. كانت القرية تتكلم عن الشياطين. حكى
ذات يوم ، حين كنا أطفالاً، مختار الجانبي والناس مشغولون بالقرشي حكى عن
مسافر ليل متعب تمنى أن يسعفه الله بوسيلة مواصلات وعندما أعياه السفر
والمشي وضنك الطريق ولم تأته استجابة فورية طلب الله مرة أخرى فقال:
- يا الله أي شيء يوصلني إلى أهلي حتّ لو كان بساط الريح أو الجن:
) ضحكنا وسألنا درديري عن مختار ولماذا يسمى بالجانبي وما إليه ثم لزمنا
الصمت حتى لا نخرج درديري من الفورمة(.
وواصل الدرديري:
وهكذا استمر ذلك الرجل في أدعيته الوصولية حتى برز له من لا شيء في
وسط تلك الصحراء جمل ذو بأس . أناخ المسافر الجمل وصاح فيه :
- يلا بينا.. جابك الله. ودينا ود الجمل.
وكانت ود الجمل قرية وديعة في عمق الجزيرة . قال مختار الجانبي صار
ذاك الجمل يمشي بتلكؤ ثم حرن وتوقف عن السير. ووجد المسافر على ظهر
الجمل جراباً ففتحه فوجد به سوطاً جديداً ينضح بالقطران. فضرب الجمل
والإبل حقودة فيما يقولون. اختزن الجمل الحقد، وصار كلما يتلقى سوطاً
يطول شبراً ثم صار السوط بمتر من الارتفاع. قال الجانبي صار الجمل أطول
من أطول عمارة في الخرطوم. وهنا توقف المسافر عن الضرب ولكن الجمل
ما توقف عن إنو يطول . توقف نعم لكن عن السير. الجمل في النهاية بقي
مثل برج فرنسا في الطول. طول السما أضاف مختار الجانبي وبدلاً من الخوف
استل المسافر سكينه وقال للجمل:
- ما تقول عفريت واللا شيطان. وحات تربة والدي إن ما نزلتني أضبحك
جخ ..خ.. خ.. خ.

  Reply With Quote
Old 03-19-2011, 06:45 AM   #49
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

قال مختار الجانبي:
- الجمل خاف وبدأ مثل عفريتة العربية ينزل سنّة.. سنّة.. ولما صار
بحجم الابل الطبيعي، قرر المسافر أن ينزله أكثر فيرعبه حتى يهبط )لطول
يخول لراكبه النزول دون مشقة(. الشيء الذي حدا به أن يأمر العفريت:
كمان وينزل الشيطان مثل عفريتة العربة مصوتاً ويصيح الراكب آمراً: كمان.
وينزل الجمل نحو الأرض ويصغر حجمه إلى أن أصبح في نهاية الأمر بحجم
كرة القدم. كجمل الطين. وهنا فكه المسافر من "رسنه" ودحرجه أمامه ثم
صوب قذيفة بقدمه اليسرى أقوى من الطلقة، فطوح به في الصحراء الواسعة
حتى صار بحجم البلية، ثم اختفى. كانت القرية مشغولة بالشياطين تتحدث
عن العافية الجنية الطيبة تلك التي لا تؤذي أحداً حيث تسكن بئر القرية
الذي غاض ماؤه وحل الصهريج محله بعد حذفه من قاموس القرية اليومي.
وتتحدث القرية عن أب لمبة أو أب بطارية ويقولون إنه شيطان يتجول ليلاً
بمصباح وفي أيام موت بقرتنا حكت القرية طويلاً عن سبعة شياطين تسكن
القرية وتتبدى ليلاً في شكل مرافعين أو بعاشيميقول حكاءوا القرية إن هذه
الوحوش تأكل الدجاج الحي قبل أن يولد. هددت القرية أطفالها فتركوا لعبهم
الجماعي المسائي المرح.
وبيني وبين نفسي كنت لا أصدق هذه الحكايات. خشنت مصاعب
الحياة وصدامها قلبي. شببت قبل الصبا. رأيت ما يرى رفاقي وما سيرون.
عدوت ومن خلف عدوي مرت القرون. فعدت من هجرتي الروحية شجاعاً
كما لا يتصور أحد. كالشهيد وهو يصعد للحبل الظالم. غاية الأمر هذه
الكلاب السبعة الرمادية المتحلقة حول جثة بقرتي والتي كانت تتشاجر فيما
بينها والتي بقرت بطن البقرة ولوثت فكوكها المتوحشة الفتاكة بدمائها
المريضة هذه الكائنات الفاحشة ) الشر( الغليظة الأنا تنتظرني. وها أنذا
.نظرت الكلاب نحوي بعنجهية وأصدرت أصواتها وكفت عن صراعاتها الجانبية
وتوحدت شراً مسلحاً في مواجهة حيلة واسعة، شراً أهوج في مواجهة عقل،
بطناً في مواجهة فكرة. ولابد أن الكلاب استغربت تقدمي نحوها بعد كل هذا
التخويف. كانت الكلاب من نوع كلاب الخلاء ولكنها أضخم من سائر كلاب
قريتنا حجماً. وهذه الكلاب السبعة جدها واحد من كل بد. ولابد ان جدها
كلب انجليزي نسيه مفتش ما ضمن ما تركه وهو يغادر قبل أن تحل السودنة.
وربما جاع ذلك الجد "النبيل" فتشرد وأصبح وهو ابن الملوك الكلبية، كالملك
الضليل وتزوج بنت خلاء فولدت له ربما الشنفري وتأبط شراً، ثم ولد عن تلك
هؤلاء السبعة العظام. عشر خطوات بيني وبينها. كلاب السوء. وهنا شعر
قبيل الوحوش ذاك بالخطر فأرعدت سائر فصائله. وأطلقت بنادقها الصوتية
ثم تقدم كبيرها نحوي بخطوة مهتزة للتأكد من ردة فعلي. لحظتها أدخلت
يدي في جيب بنطالي للتأكد. كانت عيناي تنظران بحدة فأرى الكتيبة كلها
بعين واحدة، وأدخر العين الأخرى لتنظر داخل دماغي عن أنجع التصرفات مع
الوحوش. وعلا الغبار وتقدم كبيرها نحوي كثعبان انطلق من جحر به دخنوه
بشطة وأنا لم أكذب. قبل أن يدهمني ذلك الكلب الوغد سددت طلقتين في
نافوخه )صرخنا فيه معاً :-رصاص؟(قال الدرديري:
- نعم
ثم انهمر سيله الكلامي العارم:
- افرغت ست طلقات أخرى قبل أن تفكر الجماعة الكلبية ملياً في قرار
هجومها وقبل أن تهجم علي أو تعقد معي صلحاً أو تجري. المدة بين الطلقة
والأخرى نذر من الثانية والمسافة بين الرأس المتهاوية والأخرى المتداعية نصف
متر انتهيت من المهمة. تشفيت وألقيت نظرة على البقرة، ثم جلست يدي
51 50
فوق رأسي تحملانه. هكذا أنا بعد العاصفة.
ألقيت نظرة ثانية على البقرة ثم بدأت ألم حولها العشب الناشف فكومته
كوماً كبيراً حولها ثم أشعلت سيجارة وأنا في حالة تعب جهير الصوت. الأرض
حولي سوداء ورحيبة وهشة أخذت ساق قطن يابس وبدأت أحفر به بسهولة
ثم بعسر إلى أن وصلتني طلائع أهل القرية أثر سماعهم للضجة وعندما
وصلتني طلائعهم كنت قد اشعلت النيران حول البقرة، التي جذبتها للحفرة
الصغيرة من أطرافها المتخشبة. سألوني كثيراً )قال الدرديري( وأجبت قليلاً.
وصاح في والدي مستنكراً:
- إنت برضو اشتريت من المسدسات المهربة؟
لم أنظر اليه من خشيتي إياه، ولم أجب.أجاب عني فم ينغلق وينفتح
دون كلام.كان الجميع ينظرون إلى وأنا أهيل التراب على البقرة المحروقة.
معروف ساعدني ثم ساعدني عثمان وعبدالله وعلي الطاهر والكبار أيضاً ووضع
مختار الجانبي فوق القبر شاهداً. وأنا أرجع معهم كان ذهني يعمل في جانب
آخر من المسألة. قلت لنفسي هل تعني مساعدتهم لي أن )ح.ح.( ستقوم
قائمتها مرة أخرى؟أما مختار الجانبي فطفق يقول:
- والكلاب؟ الكلاب ما بتحرقوها؟
هذه المرة صدق.فقانون الحرق يطال جميع الكائنات النافقة حول القرية
مهما كانت درجة شرّها. رجعنا وأشعلنا في الكتيبة المبادة النيران.كان ح. ح.
هو اختصار من عندي لعبارة حرق الحيوانات النافقة.صمت الدرديري. صمت
وأدخل يديه في تلافيف جلبابه وغاص في تاريخه الشخصي الشائك. أما طيفور
فقد راح يضحك وهو يغازل أعواد الذرة: ثم ما لبثنا أن خرجنا من حقل الذرة
مضمخين برائحة الطين والعشب والذكريات والأبقار والشجر

  Reply With Quote
Old 03-24-2011, 02:29 PM   #50
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

بشرى الفاضل
bushralfadil@yahoo.com

قال السيناتور الديمقراطي جون كيري إن الولايات المتحدة قامت بتجميد ثروة الرئيس (المخلوع)..
كيري لم يقل الرئيس (المخلوع) بل قال الرئيس الذي أقصي من السلطة أما الكلمة العنيفة فقد أدخلناها نحن في التصريح لعلمنا أن كلمة المخلوع هذه (تخلع) الشموليين. وفي حقيقة الأمرحسني مبارك مخلوع ونص. ألم يجبره ثوار 25 يناير على التنحي غصباً عن إرادته؟
نحن نتحدث عن مليارات الرئيس في أمريكا وحدها وبذا يكون الخبر الذي نشرته صحيفة الجارديان سابقاً في فبراير المنصرم - أيام غليان الثورة المصرية- عن ثروة الرئيس مبارك التي تجاوزت 70 مليار دولاراً صحيحاً وغير مبالغ فيه إذا علمنا أن لديه أموال وموجودات داخل مصر وخارجها في أوروبا والخليج وآسيا وغيرها من (الجخانين) التي ستكشف عنها الأيام.
يجب الا يشك احد في ان ثروة الرئيس مبارك بمليارات الدولارات .ومن الأمور التي تدعو للاستغراب دفاع العقيد معمر القذافي عن مبارك ونفي كونه يمتلك ثروة بهذا الحجم فقد صرح العقيد بأن مبارك لا يملك حتى ملابس كافية.وكان إحدى الشركات البريطانية قد نشرت صورة بذلة لمبارك خيوطها عليها اسمه وقد حيكت بدقة بحيث لا ترى وقد بلغ ثمنها آلاف الدولارات.
لا يملك ثمن ملابسه قال.
تعال هنا أيها التصريح الملتبس تصريح شمولي في الدفاع عن شمولي. في التنك!


صحيفة الخرطوم

نشر بتاريخ 24-03-

  Reply With Quote
Reply


Posting Rules
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is On
Smilies are On
[IMG] code is On
HTML code is Off

Forum Jump


All times are GMT. The time now is 10:50 AM.


Copyright ©2000 - 2024, Futeis.com