View Single Post
Old 01-27-2013, 10:01 AM   #2
 
عاطف البدوي
زائر

رقم العضوية :
المشاركات : n/a
بمعدل : 0



Default

** لقد كانت استقامةُ مريم هي جوازُ مرورها الوحيد لتحمل شرف المعجزة الكبرى التي اختارها الله لها ، وهي : أن تكون أُمَّا للمسيح عيسى - عليه السلام - ... أنْ تكون أمّا له بلا أبٍ يشاركها هذا الحدث ويتحمل معها تبعاته ... لقد اختارها اللهُ تعالى لتكون أم المسيح الذي ما يزالُ إلى اليوم مضرب المثل على قدرة الله على الخلق بغير مثال ، قدرته على الخلق من العدم وعلى غير القاعدة التي ألفها البشر... فاندفعوا إلى أن أنكروا سواها- سوى هذه القاعدة الأساسية في الخلق - ناسين أن الله سبحانه هو الخالق الجليل وهو خالق القواعد والسنن يُسيّرها كيف يشاء ... ويخرقها كيف يشاء ... وما خرقُ قاعدةِ الخلق في المسيح عيسى إلا ليستفيقَ خلقُه من غفلتِهم عنه ونسيانِهم عظمته وتجاهلهِم قُدرته ، بل وإنكارهم قدرته على بعثهم يوم القيامة من الموت ، وإحياءِ عِظامهم وهي باليةٌ رميمٌ ...
** لقد كانت " مريم " الرّوح والرّحم اللذين هيأهما اللهُ تعالى واصطفاهما لهذه القضية الكبرى ، وهذه الإشكالية العُظمى غير المكرورة في التاريخ الإنساني ... وهُنا نتفهم الحكمة الإلهية العظيمة في نوع التربية والتنشئة التي أرادها الله لمريم و يسّرها لها ... كان لا بد من تربيةٍ دينيةٍ قويمة ، كان لابد أن تخضع مريم لانصهارٍ كلّي في العبادة ، وانقطاعٍ كامل للطاعات الدينية بما يُطهّرها من الغايات الدنيوية العابرة الرخيصة ، وبما يجعل ولاءها لله صلباً شديد الصّلابة ، وبما يجعل قدرتها على البذل في سبيله قوية عالية غير قابلة للمساومة أو الاهتزاز أو التردد أو...الاحتمالية ، وذلك لأنّ مريم سوف تواجه بعد الاصطفاء الأخير :

1- عبء اصطفاء الله لها ... وقد أبلغها بذلك جبريل عليه السلام الذي تجسد لها بشراً سويّا .

2- رهبة مواجهة الملك الكريم - جبريل - ، والاضطراب من هذا الحدث ، و... الاستعاذة بالله من رهبة الموقف ... تماما كما أعاذتها أمها عند ولادتها !

3- عبء حَمْل الجنين - عيسى المسيح - دون زواجٍ ، ودون قدرة على إخفائه أو إثبات طهرها وبراءتها ممّا يتبعه الحمل بدون زواج ... كلُّ هذا الهمّ العظيم وهي " مريم " ... القانتة العابدة العفّة التي لم يكن يخطرُ ببالها لحظة أنْها ستتعرّض لهذه التجربة العظيمة وهذا الابتلاء الشديد الذي يشكّك في أميز خُلُقٍ يميّزها : العفّة والطّهر ! فسبحان الله الذي اختبر إيمانها به وقدرتها على الصبر لأجله فابتلاها في أثمن ما تملك في حياتها : فضيلتها وشرفها وعفّتها ... حيث تتعرّض للاتهام في كلّ ذلك والتّشكيك فيه في سبيل الله !!

4- عبء الولادة وحيدة مستترة ... مجهدةً ... ضعيفةً ... خائفةً ... مستخذية مهمومة تتمنى الموتَ وتفضله على مواجهة الاتهام في فضيلتها ...قال تعالى - في سورة مريم - :
" قالت يا ليتني متُّ قبلَ هذا وكنتُ نَسيَاً منسيَّا "الآية 23

*** لكنّ الله الذي اصطفاها واختبر معدنها بهذا الابتلاء العظيم ، وحمّلها هذه الرسالة الجلل لم يكن ليتركها دون تثبيتٍ ودعائم توطّد أركانها وتعيد إليها استقرارها النفسي وثباتها الديني ... لم يكن الله ليتركها ويتخلّى عنها وهو العظيم الحنون الأقربُ إلينا من حبل الوريد ... فدّعمها اللهُ بهذا الدّعم الجليل منتقلا بها من مرحلة إلى مرحلة من مساندته ...
كما يلي :

1- أوحى اللهُ إلى مريم أنها لا تحمل جنينا تقليديا ... ، بل تحمل معجزة عظمى ورسالة إلهية كبيرة . قال تعالى- سورة مريم -

"فأجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنتُ نسياً منْسيّا23 ) فناداها منْ تحتها ألاّ تحزني قد جعلَ ربُّكِ تحتَكِ سرِيَّا 24 ) "

والسّريّ - لغةً - هو العظيم الجليل مكانة ... وهو المسيح ... ويختلف المفسّرون فيمن ناداها من تحتها : أهو عيسى عليه السلام أم جبريل عليه السّلام ... والفائدة في الحالين واحدة وهي :
أن الله دعّم مريم برسالة من لدنه حتّى تثبت فيما هي مقبلةٌ عليه ... ونلاحظ حكمة الله في تثبيت مريم من هذه الجهة قبل حدث الولادة وذلك حتى تستطيع أن تمر بهذا الحدث بسلام ! وحتى تتثبت من صدق المعجزة فتواجه قومها بقوة !

2 - أمدّ الله مريم بما تحتاجُ إليه ساعة المخاض : القوة والغذاء فألجأها بوحيه إلى جذع نخلة قوية لتتمسك بها وتشدّ بها قامتها حتى تستطيع الولادة ، وكأنها تستعيض بإمساك الجذع عن المساعدة البشرية التي كان من المفترض أن تتلقاها في الوضع الطبيعي ... ثمّ أوحى إليها أن تأكل من رطب النخلة ذاتها حتّى تُعوّض ما فقدت من عافية : قال تعالى :

" وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلةِ تُساقِطُ عليكِ رُطباً جنيَّا فكُلي واشربي وقرّي عينا " سورة مريم / الآية 25

3 -أراد اللهُ سبحانه أنْ يجنّب مريم ذلّ الكلام مع قومها المُتشكّكين في براءتها ، والمُتهمين لها في صدقها وفضيلتها ... أراد اللهُ الإكرام للسيدة مريم ؛ فهو يعلم - سبحانه مدى ضعفها في هذه اللحظة ومدى عجزها عن إثبات براءتها وصدق المعجزة التي تحملها بين يديها ... أراد أنْ يدفع عنها ما لا تطيق وأن يسمو بها عن رخيص ما سوف تسمع ... كما أراد أنْ يثبت معجزته بما يحقّق الهدف المرجو منها . فأنطقَ وليدَها " المسيح عيسى" بما يُعد إثباتا للمعجزة المثبتة في حد ذاتها :

أي خلق عيسى بغير أبٍ ، فقد جعل اللهُ قوم مريم يعاينون بأنفسهم معجزة أخرى تؤكد لهم معجزة خلق عيسى بغير أبٍ فلمّا ارتابوا في مريم وشككوا فيها أنطق اللهُ وليدها ليؤكد المعجزة من جهة ، وليثبت طهرها من جهة أخرى قال تعالى - سورة مريم :

" فكُلي واشربي وقرّي عينا فإمّا ترينّ من البشر أحدا فقولي إني نذرتُ للرحمنِ صوماً فلنْ أُكلِّم اليومَ إنسيّا 26 ) فأتتْ به قومَها تحمله قالوا يا مريمُ لقد جئتِ شيئاً فريّا 27) يا أختَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امرأَ سوءٍ وما كانتْ أُمُّكِ بغيّا 28) فأشارتْ إليه قالوا كيف نُكلِّمُ منْ كانَ في المهدِ صبيّا 29) قال إنّي عبدُ اللهِ آتاني الكتابَ وجعلني نبيّا 30)

*** لقد كرّم الله مريم وأثابها على عمق إيمانها ، وعلى طهرها ، وصبرها على طاعته ...، و... ، و... لقد كرّمها الله وأثابها وخلّد ذكرها بما لم يسبق مع أيٍّ من نساء العالمين :

1 - خلّد اللهُ الذكر الطيّب لمريم وخلّد دفاعه عنها ، بما يعدُ تكذيبا دائما لكل كلمة سوءٍ قِيلت فيها ،وذلك بوصفه لها في كتابه بأنها : " التي أحصنتْ فّرْجها " وقد خصّها وحدها - دون نساء العالمين بهذه الصّفة وهذا الوصف ، و يكفي في تبرئة السيدة مريم أنها لا تُذكرُ في القرآن الكريم إلاّ بهذه الصّفة ، فضلا عن وصفه لها بأنّه اصطفاها وطهّرها ...

2 - نسبة المسيح عيسى إليها ... فهو يُذكر في القرآن الكريم دائما بأنّه " المسيح عيسى بن مريم" ...

### فهلْ كانت أحلام امرأة عمران في وليدها ترقى إلى هذه المصاف التي ارتقت إليها مريم باصطفاء الله لها ؟ !

هل كانت امرأةُ عمران -وهي تتمنى على الله مولوداً ذكراً يعبده ويخدم بيت عبادته - تتخيّل ولو للحظة أنْ تكون مولودتها الأنثى على مثل هذا الفضل ومثل هذه المكانة من الله ... أنْ تكون على مثل هذا القدر من خلود الذّكر الطيّب والاقتران بواحدةٍ منْ أعظم المعجزات الإلهية في تاريخ الإنسان؟

## هل كانت امرأة عمران وهي تناجي ربّها ذليلة الخاطر ، مكسورة الحلم ، معتذرة :

" ربِّ إنَّي وضعتُها أُنْثَى وليس الذَّكرُ كالأنثى "

هل كانت امرأةُ عمران تعلم مدى الفضل الذي ستحظى به مريمُ بينما كانتْ تردد متألّمة حزينة :

" ربِّ إنّي وضعتُها أُنثَى " ... أنثى ... أنثى

"و ليس الذّكر كالأُنثى " ... الذكرُ ... ليس كالأنثُى ...

هل كانت تعلم المُرتقيات التي سترتفع إليها مريم بفضل اللهِ ، وبأنّها - من خلال كونها أنثى - ستكون موضع معجزة إلهية جليلة الخطر في تاريخ الخلق ؟

لم تكن تعلم ... ولكنّ الله وهو يسمع نجواها و... شكواها كان يدبّر أمره ويعلم ؛ ولذلك قال سبحانه :

" واللهُ أعلمُ بما وضَعَتْ " ... ***

### وكأنّ الله سبحانه قد أجاب على امراة عمران في كلّ ما قالت ... ولكنّ إجابته عليها كانت بموقفٍ عملي هو : دفعه لمريم لتكون موضع معجزته العظمى ... وكأن الله سبحانه يلغي هذه التفرقة التي أشارت إليها امرأة عمران بين الذكر والأنثى ، يلغي هذه النظرة المُستخذية إلى الأنثى ، ويثبتُ إمكانية أن تحوز الأنثى من فضل الله ما يحوزه الذّكرُ ... بلْ وربما أكثر منه ... ولكن وفق شروط وبرنامج إلهي ساقه اللهُ إلينا في قصة مريم :

*** البرنامج الإلهي هو : الإيمان والطّهر .

إذا تمسّكت المرأة المسلمة بهذين الشرطين اللذين تضمّنهما البرنامج الإلهي لإعداد مريم حازت من الله على الفضل العظيم بما تتفوق به على غيرها من خلق الله ذكراً كان أو أُنثى ...

وكل هذا ينسجم مع ما وعد به اللهُ تعالى من الأجر كل منْ يعمل صالحا من ذكر أو أنثى ... دون تفرقةٍ ... دون طبقيّة ... دون مقارنة ... فالعلامة الفارقة لدى الله - سبحانه - ليست الذكورة والأنوثة ، وليست الغنى أو الفقر ، ولا وجاهة النسب ووضاعته ... ليست إلا التقوى والصدق في الإقبال عليه ، والدعوة له ، والعمل من أجل رضائه ، والصبر على المكروه لأجله ... وقد كان كل ذلك موفورا ناصعاً في " مريم " فحازت على الفضل العظيم ...

منقول - مدونات ادركت جلال القران

  Reply With Quote