View Single Post
Old 10-07-2010, 03:06 AM   #9
 
صادق محمد عوض

تاريخ التسجيل: Apr 2010
رقم العضوية : 90
السكن: السعوديه
المشاركات : 2,137
بمعدل : 0.42



صادق محمد عوض is offline
Default

. د بشرى الفاضل قاص حاذق عُرف بمساهمته الابداعية الفذة، وأشواقه الجمالية الضاجة وانثياله الوجداني الدفيئ ومنجزه الابداعي الذي ما فتئ يدغم ذاته في نسيج الحياة اليومية بمجمل مشاهدها ومواقفها وشخوصها عبر لغة مشحونة بطاقة إكسيرية لا تلهث ولا تفني وتلك هي عصاه التي استطالت فأزدردت ما حولها. فلا يكاد أحد يتناول انتاج د. بشرى الابداعي دون ان يقف مأخوذاً مبهور الانفاس أمام الالمعية اللغوية والفرادة التي إستوت على سوقها لتعطيه طابعه اللغوي الثوري الذي لا يدخر وسع اللغة الاستيلادي ولا سعتها الدلالية عبر انساق عدة منها الاجتراحات اللغوية التي بلغت عنده شأن ان تكون في حد ذاتها ممارسة ثقافية بالغة الاهمية وتجريب جمالي يشاكس اللغة في إبتكارية تلقائية وطواعية ابداعية واعية بعيدة عن التكلف والصنعة والعسف الحداثي، فهو صاحب التعابير الماهرة التي خرجت لشرعية التداول اليومي من بطون مجموعاته القصصية امثال مجموعة «أزرق اليمامة» ومجموعة «البنت التي طارت عصافيرها» و«سيمفونية الجراد» ومن تلك المفردات مثلاً مفردة «طفبوع» التي اختزل فيها الكاتب كل المعاني القميئة التي تحيل الانسان الى كائن مدمّر ومصاص دماء يفتك بسلام الآخرين ويغدر بهم في غفلة الطمأنينة.

ولعل رهان د. بشرى الفاضل المضمر في نصوصه يتمثل في انه يضع القارئ ازاء لغة بسيطة وفي ذات الوقت مزدحمة بالدلالات ومحتشدة بالمعاني إلى حد الامتلاء، فنص «الرحيل الى جنة الجراد» على سبيل المثال مكتنز بالافصاح الابداعي القائم على متانة هيكل اللغة بكل قوة إنفعالها وعاطفيتها وطاقتها الشعرية وذلك عبر حيل عدة منها تقليب اللغة على كافة اوجهها لتؤدي دوراً مركزياً في دفع ثقل دلالات النص عبر مسامها الرهيفة. أو بأن لا يأنف د. بشرى من ان يلعب مع القارئ لعبة ذكاء صغيرة أو يقوم بمناورة لغوية يقتنص فيها مفردة ويعيد تركيبها وتوجيهها بمرح طفولي عابث، أو حتى بأن يقوم بمغامرة فنية تشاكس اللغة بروح نزاعة للسخرية والطرافة الذكية.

ولعل ما يعطي د. بشرى تلك النكهة الاسلوبية الخاصة كذلك إهتمامه الجم بالتوثيق للصوت البيئى المحض ودقة معالجته الصوتية ومحاكاته بوزنته السمعية وتوظيفه ومن ثم كركيزة اخرى من ركائزه التعبيرية لارتياد مستويات حكائية جديدة تكاد تسمع فيها صدى الكلمات بل وتلمس حوافها. فمن قراء مجموعة «أزرق اليمامة» لم يخالج سمعه سعال حاجة السرة العجوز الخرفة وهي تكح كحة مضمومة «أُه أُه» ومن لم يتسلل إليه صوت الجراد وهو يغني عذاباته بشعر آسر فينطلق شجياً بلا حنين واللوعة «تكم تك تك» في «سيمفونية الجراد».

وجرثومة د. بشرى الابداعية حاضرة كذلك في طاقة نصوصه الدلالية اللافتة من حيث كثافة الاحالات وترميز الالفاظ بل وإزاحة معانيها إلى دلالات خفية ومعاني خاصة تنفذ حتى إلى اسماء الشخوص التي غالباً يكون لها من مثلوجية الاسم نصيب بكل درجات الالماح والاشارة وذلك ملحوظ مثلاً في اسماء الجراد المرتبطة إرتباطاً اشتقاقياً وثيقاً بحروف مفردة جراد من جهة امثال جريرة وجارد وجبورة أو بكدحها وأقدرها من جهة اخرى.

ومما يستحق كذلك الوقوف عنده انتباهة د. بشرى الفاضل السديدة للغة العامية وتوظيفها كمورد طبيعي غنى وكخامة تعبيرية اصيلة تسهم بقوة في تماسك البناء الداخلي للنص، فهو لا يستخدم العامية كخصم للفصحى وإنما كرديف مكمل يظهر اللغة ككيان ابداعي مرن يتسع لثنائية الفصحى والعامية معاً لتعملا بتساوق رائع يتحقق معه مقتضى القص دون قداسة متوهمة لكيان الفصحى أو تنكر ثقافي ساذج للعامية كلغة محكية.

كما أن الحضور الحكائي الانيق لدكتور بشرى الفاضل يظهر في مقدرته على تعرية منطق الاشياء الداخلي وفتح النوافذ للقارئ ليرقب خلفيات المشهد الانساني المركبة، مما يجعل منجزات الكاتب القصصية تميل لكونها قصص استبطان وتفلسف أكثر منها قصص حدث ووقائع، فالسرد يدلف بالقارئ بانسيابية قصوى وباناءة محكمة إلى كشوفات النص الداخلية عبر لغة مكتنزة ومفتوحة كلياً على فضاءات التأويل وموائد الامتاع. فالنصوص بمشهديتها الدسمة وحواراتها المسترسلة باتساع مستمر، مثقلة باللا وعي الملبد بالمرموزات والموروثات والطقوسيات في نزوع وجداني ملح لاستبطانات المخيلة الشعبية عبر اشارات وتناصات عميقة المضمون وشديدة الاضاءة والانتماء وحيث الواقعي والخيالي وجها حادثة واحدة.

وكما ان امل دنقل قد استعار شخصيات حرب البسوس للتعبير عن الاحوال المعاصرة وتبعه ادونيس فقام كذلك باستلاف اقنعة تاريخية كمهيار الديلمي، فان د. بشرى لا يتردد في ان يسبر خياله ليخط مساراً آخر لافتاً باتجاه عوالم اخرى موازية فيقدم شخوصاً روائية قد تكون من الجراد عبر انسنة غامضة نرى فيها الجراد العادي والمثقف والنحيل الاعجف والسمين القميئ الراتع في الخضرة المعدلة وراثياً لنرى عبره انفسنا بكل مفارقات حيواتنا وما فيها من تناسل للمتناقضات والاكراهات والانكسارات، حيث الغزو المدني المتكلف والانسحاب القيمي والتدليس الاجتماعي هنا يقول د. بشرى عن الجرادة جريرة «خرجت جريرة في صيف امتد فيه الرماد من نشاف بلاعيم البشر الى إنطواء السجلات الخضراء عن الجداول والقنوات والمروج والمهج».

كذلك مما يجدر بنا الاشارة إليه قوة حضور المكان في نصوص د. بشرى الفاضل حيث يحكم القاص قبضته الروائية على بُعد المكان الاثنوغرافي بكل علاقاته المتراكبة وشروطه الانسانية المعقدة، مطلقاً باليد الاخرى بعد الزمان لتنفلت النصوص من عقال الساعة الفيزيائية وتطير بعيداً عن التحقيب والأطر الزمانية فتحفظ بذلك بمعانيها طازجة بكل ما تنطوي عليه من تبصرات عميقة قد تأتي على شكل عبارات قصيرة ساخرة قارصة احياناً ومتظارفة متهكمة متضاحكة احياناً اخرى.

ولعل مجمل ما وقفنا عنده في هذه القراءة السريعة لا يمثل سوى بعض قطرات من نصوص القاص السوداني د. بشرى الفاضل المائجة بالافكار والاسرار والاسئلة
والمبذولة للتأويل بلا شروط.

  Reply With Quote