View Single Post
Old 10-07-2010, 03:05 AM   #8
 
صادق محمد عوض

تاريخ التسجيل: Apr 2010
رقم العضوية : 90
السكن: السعوديه
المشاركات : 2,137
بمعدل : 0.42



صادق محمد عوض is offline
Default

لم يذهب د. بشرى الفاضل بعيداً في رحيله إلى جنة الجراد، فاستخدام العوالم الموازية لكائنات أخرى غير البشر هو شكل قديم من أشكال التعبير الفني والإفراغ الإبداعي الذى يهدف إلى إنشاء علاقات جديدة مع الواقع. وفي الذهن مؤانسات الجاحظ وإبن حزم وأبي حيّان وإبن المقفع وغيرهم، مما قد لا يتّسع المجال لذكرهم، مروراً بمؤسسة الشعر التى لم تخل من التوسّل بعوالم الحيوان

وفي الذهن أيضاً أشعار عنترة التى إستطاعت أن تقدّم مثالاً للإنسانية العميقة التى ترتفع بالحيوان من درك المطايا إلى درجة الصحبة والمؤاخاة النبيلة. فينظم عنترة أبيات في فرسه الأدهم تخلّده وتسبغ عليه آيات الشموخ الروحي.

ولا ننسى بليك «Blake» الذي إستقطر رحيق سعته الإنسانية وسخائه الإبداعي ومفرداته الأدبية في مجموعته «أغاني البراءة» فكانت أهم قصائد تلك المجموعة هي قصيدة «الحمل والنمر»، وتتمدد ذات الفكرة في كلّ الأدب الإنساني في كلّ زمان ومكان فنجدها في «ملحمة الطيور» في الأدب الإغريقي الاستروفاني كواحدة من أعظم ما أنتج المسرح الديونيسي في أثينا. حيث تبني الطيور مدينتها في السماء وتُحكم من فوقها قبضتها علي العالم.

وهكذا فإنّ الاستخدام الإبداعي لتلك العوالم الموازية لم يفقد قط وعبر الأزمان فعاليته الإدهاشية وقدرته التعبيرية سواء استند في ذلك إلى الأسطورة أو إلتحم بالواقع. ولعلّ ذلك هو السبب الأقوى في استخدام ذلك الأسلوب بإتّصال مستمر في قصص الأطفال، ليلعب من ثم دوراً مقدّراً في إرساء مدرسة أسلوبية قادرة على شحذ خيال الأطفال وتوجيههم توجيهاً قيمياً غير مباشر. ونعود إلى الأدب الروائي لنجد أنّه أيضاً قد إعتمد غير قليل على توظيف تلك المعاني لينسج بذلك أمشاج الخيالي والواقعي بأبعاد رؤيوية في لُقيا إنسانية وكونية جامعة استطاعت ان تكون هي الأقدر على توصيل الأفكار الكبيرة بكل محمولاتها الرمزية والقيمية والعاطفية.

ومن هنا إمتدت يد د. بشرى الفاضل الإبداعية الطويلة لتدق برفق على ذلك الوصيد، لتُفتح لنا الأبواب على مشهدٍ فني آخر في بنائية قصصية مشفوعة بروح السحر الفانتازي والبراءة الروحية والخصب التأملي والتثوير اللغوي المجنح الذى يحرر اللغة بعفوية من كل سلطة وسقف. ليؤكد د. بشرى الفاضل مجدداً في دفقه الإبداعي أنّ الشحذ المتواصل لنصله اللغوي لا يبليه بل يرهفه ويمضيه في كلّ مرة.

وبسردٍ لا يخلو من الجدّة والطرافة يتخلّق أمامنا عالم حي ويتراكب معماره مع تتابع القص بيسرٍ وتلقائية مدهشة.

وفي إحاطة بارعة بتفاصيل عالم الجراد يقدّم الكاتب مفهوماً وصفياً مختلفاً للمرئيات والمسموعات. ويحلّق بنا مثلاً على جناح جرادة في عالم الأفق في مسحٍ طبوغرافي عجيب وواقع بصري فريد تنقله لنا أعين جرادة ترى ما لا نراه. بل ونحسّ كذلك بالتفصيل الفيزيائي الدقيق لعملية الطيران والاستجابات التبادلية الوظيفية مع الترجرحات والتيارات الهوائية والإنعكاسات الضوئية.

ونجد أنفسنا نرهف السمع لأصوات الجراد الجزلي وشعرها الخاص بوزنته السمعية وإحداثياته النغمية المختلفة. ويمتد الكاتب بنا إلى قاموس الجراد ليُرينا بعض مفرداته الخاصة. فالجاغة هي ساعة الجراد بقياسات الساعة الفيزيائية الجرادية الخاصة. وعبر كل تلك المجاميع التصويرية والسمعية تتداعى الحواجز بين الموجودات وتتماهي العوالم لنرى الشخوص الجرادية وهي تتدافع بأرواح حسّاسه قادرة لتنتزع فرصتها في الحياة والبقاء والحُب من براثن الحظ الضنين والكون الذى يتنازعه الأقوياء.

وبقصيدة إبداعية عميقة تذهب بنا في رحلة كشف في صميم الوجود الإنساني وتحديق عميق ملئ في جزيئات الواقع واستقراء لطبائع الأشياء بإدراك لا يراها كمسلمات باردة، بلغة كثيفة تمتلك أكثر من مستوى واحد للدلالة.

وبطاقة مرهفة قادرة على تقطير التجربة الانسانية والقبض على جوهرها وإختزال وتلخيص خبراتها وتجاربها بطواعية مدهشة تحيل إلى متعة ذهنية رائقة وراقية.

وقد وجدت نفسي أقف طويلاً عند حديث المبدع الياباني هوراشيو كويروجا المشهور بقصص الحيوان والعوالم الموازية وهو يؤكد على أن تلك القصص تأخذنا بإقتدار في تطواف ذهني موحي. ولم أدرك ان «سيمفونية الجراد» تعدني بذاك العروج الذهني، حتّى جاءني صوت شقيقي من أقاصي إسكندنافية وهو يهتف بحماسة غريبة. قال متلمّظاً ما معناه أنّ أقوام الجراد قد توحّدت بالفعل أمام كلّ العوائق لتوجّه صفعة مطرقة لوجه الإنسان السادر في غيّه.. وأين؟؟ في واحدة من أكثر مدن العالم إزدحاماً بالسكّان» القاهرة» وضحكت ملء روحي من حماسته حين أدركت كُنه إشاراته الضاحكة.

وللعجب وجدّت نفسي أنسرب من فوري وبلا استئذان لأندس في عوالم الجراد، بل وأقفز بروحٍ واجفة لأتابع عبر كلّ الفضائيات تلك الغضبة الجرادية الجاسرة في وجه الإنسان الباطش بكلّ المنظومات الحياتية من حوله.

وإنتفشت روحي وخطرات خيالي تخبرني بأن الجراد قد طار بلا هوادة عبر الأطوال والأميال والصحاري بصبر نارد وبوصلة بيولوجية مدهشة لا تخذله أبداً ليحطّ حيث أراد ساعة أراد. وذلك ليردّ عن نفسه التهمة الجائرة التى تجعله لا شئ في درك الآفات المسفلّة. ليحقّق إرادته رغم عصف العناقيد الكيميائية المبيدة والأبخرة السامّة.

فشكراً عميقاً لصدق كلمات هوراشيو الذى استمطر عبر روائعه تفاصيل العلاقات بين الكائنات، ووحدة المخلوقات وحقّها في الحياة في كون واحدٍ جامع. وإنحناءة لكل ألمعيّ رهيف يستطيع ان يلقى «ببشرى» إبداعية ومنجز فنّي «فاضل» في وجه نعاسنا الثقافي الوخيم عبر نصٍ حي ممتلك لصفة التسامي الكيميائي الأدبي الذى يتحول فيه النص من حالة المسطور الكتابي إلى حالة الملامسة الحياتية مع جلد الواقع دون المرورر بأي مراحل وسيطة، لتستفيق الأقلام ولو إلى حين

  Reply With Quote