View Single Post
Old 08-22-2011, 06:28 PM   #2
 
مصطفي القرشي
زائر

رقم العضوية :
السكن: السعودية - الرياض
المشاركات : n/a
بمعدل : 0



Default

* كأني بالنفس في سباق كبير شامل للسير, كالماراثون, وكأني بها تلهث وتهرول, وتهرول وتلهث في قطع المراحل, كل دقيقة تضيع تفوّت فرصة في اللحاق بخط النهاية المرصود في الظن... وفي هذا اللهاث المحموم ربما تسقط أشياء صغيرة لا يلقي لها العابر المشغول باله ولا يدري أن في تفويتها وباله...

في أحد سباقات الماراثون كان المتسابق الفائز هو الشخص الوحيد الذي وصل إلى خط النهاية, لم يصل أي من بقية المشاركين الألف لنقطة النهاية, ولم يكن الفائز الوحيد الذي أكمل السباق أوفرهم قوةً ولا نضالاً ولا صموداً ولا دأباً في السعي, فكلهم كان يجِدُّ في المحاولة, لكنه كان الشخص الوحيد الذي سلك الطريق الصحيح بينما ظل الباقين يركضون في الاتجاه الخاطئ...

إن الخطأ الذي تتهاون به في مراحل الطريق يشبه انحراف المكوك عن مسار انطلاقه بزاوية ضئيلة جدا أقل من جزء من المائة من الدرجة الواحدة.. لكن هذه الانحراف الطفيف الذي يوشك ألا يلحظ سينتهي به مع اتساع محور الانطلاق في الجو لأن يهبط منتكسا في أعماق المحيط ولما يقطع في رحلته الموسومة شيئاً قط...

لا تركض في الاتجاه الخاطئ...
ومهما كنت في انشغال محموم فلا تنخدع به, إنما هو وهم النفس لك أن لا وقت لديك للمذاكرة, لا تلهث على ذات المحور المفقود...

في هرولة الأيام والليالي لا تذعن النفس غالباً لكل تلك النداءات الخافتة التي تأتيها من عمق بعيد داخلها لتهاب وتتدبر وتتساءل في لحظة تقى وصفاء: فيم كل هذا ؟...

هو سباق الماراثون الكبير... والكل مشترك فيه مسبقا وبتلقائية, لا أحد يريد أن تفوته الفرصة في اجتياز خط الكمال المحدد سلفا, قالب إسمنتي لحياة إسمنتية, حياة لا حياة فيها, لا حياة للقلب فيها, مصنع للمعلبات تدخل فيه الأجيال زرافات وأفراد, يدخل الجميع اختيارا, ولا يرفضون ألم العجن والفرد والقطع والتجميد والتسخين واللف والتقريص والتعليب والتغليف والختم والترقيم, وتدور العجلة من جديد لتنتج نسخا لا عدَّ لها من نفس الحياة المعلبة المحفوظة, هنا شهادات أساسية ثم ثانوية ثم عليا , وهنا وظيفة ودخل يجتهد صاحبه في ترقيعه ليواكب احتياجاته التي لا يحتاج إليها, وعمل آخر للإرتقاء بـ "المستوى ", وزيجات مرسومة بالطبشور والمساحيق والمقبلات, زيجات عسيرة متعسرة لأنها تتكلف مالم يكلف به الله العباد, فتوشك أن تنمحق فيها البركة, ماديا ومعنويا, بالتكاليف المنقوطة في عرف المجتمعات الأسمنتية, والمواصفات المطلوبة لترضى العروس وأهلها والمتقدم وأهله عن الطرف الأخر طولا وعرضا وشكلا وراتبا ووظيفة ومظهرا وموقعا وتاريخا وتفصيلا وتقريعا وتلفيقا وترقيعا عن الطرف الآخر المسكين والظالم في آن معا, وتقديس غير مفهوم لطقوس العشيرة, وأولاد وبنات, وشقق فارهات, وأثواب وحلي وأثاث ورياش يسد حاجة قبيلة لا أسرة, ومتاع آخر لا تحتاجه القبيلة, ومدارس خاصة للأولاد, الرقي يقتضي أن تكون أعجمية, لا يهم القرءان يحفظونه في الأجازة, لغات الأعاجم أهم, ليتم مسخ الصغار وبرمجتهم أكثر مما مسخ الكبار, ودروس خصوصية بعد المدرسة العمومية, وبلاي ستيشن..."محطات اللهو"!, وشات وشتات, وتدريب في النوادي عشية اليوم, وتلفاز وانترنت بقية اليوم الضائع بين مطرقة المدينة وسندان الفضائيات المسمومة, وسيارة حديثة, ثم تبديل السيارة الحديثة بأخرى حديثة, ثم أخرى , وبيت آخر للعطلات الساحلية, واستراحات خلوية, وتنافس في اقتناء أحدث أجهزة الهواتف النقالة لكل فرد في العائلة, ثم تبديلها بأخرى أحدث, وأخرى أكثر جاذبية وبمميزات موسيقية وترفيهية أكثر رقاعة, مع أنه لا حاجة لأي ترفيه في كل هذا... ترفيه الترفيه من فرط الترفيه....ثم .. ثم ماذا... عافاكم الله...
أيها السابح في بحر الكرى *** وهو من راحته في تعبِ
متى يتوقف كل هذا السيل الجانح الذي جرف معه كل معنى جميل وكل قيمة حقيقة للحياة...
ومن الذي سيصل لخط النهاية في هذا المارثون العجيب..
وليست الأمثلة أعلاه للحصر بل ضربا للتشبيه باشتغال القلب بالشواغل, وهناك من عوفي منها كلها أو من كثير منها لكنه يستبدلها بغيرها فهي شغل قلبه, وكثير من أهل الصلاح نسأل الله لهم الهدى والفلاح ينسى مع تعاقب السنين تفتيش قلبه وطريقه وشغله وهل هو على صراط العزيز الحميد أم وقف به عزمه لعلّة خفية في القلب عن تجريد القصد لله, وكثير منا يطرق باب الالتزام وإلزام النفس بالدين القويم ظاهراً وباطناً فتيَّ العزم في نشاط وإخلاص وهمّة, ثم تتفلت منه النفس دون أن يلحظ وتتراخى قبضته الممسكة بالعروة شيئا فشيئا فلو فتش عنها بعد حين لوجدها تتلبس بسمت أهل الصلاح الظاهر وهي خلو الباطن من كل تدبر أو إنابة أو خشوع, فبدل أن يكون التزامه خطوة البداية لتصحيح عقيدة التوحيد وطلب العلم الذي به قوام حاله وصلاح أمره تجده يتدحرج منحدرا مكتفيا بالقليل المبهم الذي بدأ به الطريق وليس يبلغ به أو يتلقف نوادر العلم, ولطائفا ودروسا متفرقة تترى من هنا وهنا دون تأصيل وتركيز, ودون شفاء الحاجة مما لابد منه للعبد ليصلح به دينه, فيذبل نبت القلب إذ يغيب عنه التقوى, ويتوارى الخشوع, ويستخفي خراب الباطن في بهاء الظاهر.
وترى كثيرا منا يلبس كل أفعاله ثوب الشرع, فلا تراه إلا راضيا عن حاله مسلما بالصواب لذاته, ولو فتش في خبيئة نفسه وقدح زناد قصده لوجدها تتبع هواها, معه تسير وعنه تقف وبه تعلل وله تؤوّل وتفترض وتبرر.... وكثير منا يرى إضاءة الحق الأبلج فيغفلها أو يتغافل عنها ويسكن ضميره باتباع شيخ بارز أو عالم يحبه ويرتاح له ويجعل من كلامه حجة الرأي وقطع الاختلاف وفاصلة الخلاف, ولا يريد أن يبحث عن الحق بنفسه التي ستحاسب عن نفسها لن يغني عنها أحد من الله شيئا يسلم لغيره زمامها ويركن لقوله وفعله وفهمه وتأويله ولو نازعته بصيرة الحق فيه أسكت النزاع لعلة في قلبه فلربما لا يضيء قبس بصيرته بعد.
فالحذر الحذر ولنفتش عن قلوبنا, ولنتلو خبرها, ولنعرض على كتاب العزيز الحميد حالها, ونتدارك توحيدها بالإصلاح, قبل أن ينادى علينا لعرض الحساب.

* العزلة تقطع أثر القلب عن دليل اللصوص, فلا يصل إليه قطاع الطريق, فإذا خليته حينا عنهم فما أيسر أن ينساب فيه الخشوع, فإذا خشع القلب فقد آن أن يتنزل عليه من السماء ماءاً يحييه, فينبت من كل زوج بهيج, فمن أحب أن يخلو لله قلبه, فليضرب عليه العزلة حينا من بعد حين...
الطُّرُقُ شَتَّى وَطُرُقُ الحَقِّ مُفْرَدَةٌ ... وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الحَقِّ أَفرَادُ
لا يُعرَفُونَ وَلا تُدْرَى مَقَاصِدُهُم ... فَهُم عَلَى مَهلٍ يَمشُونَ قُصَّادُ
وَالنَّاسُ فِي غَفلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِم ... فَجُلُّهُم عَن سَبِيلِ الحَقِّ رُقَّادُ

* أما آن للنفس أن تظمأ, للهدى, أما آن لها أن تقرأ القرءان قراءة التائه الصادي في عرض الصحراء لمعالم الأرض ونجوم السماء يفتّش فيها عن دليل الغوث وخارطة النجاة... أما آن لها أن تأنف من خنوعها في الخير ومن جنوحها في الغيّ, من التفاتها عن الجدّ واسغراقها في التفاهات..
أما آن لها أن تبحث في سبل العلم عن طريق الرشاد... أما أن لها أن تجوع في هذه المخمصة لقوت الروح.. أما آن لها أن تتلقف الحكمة كما تتلقف ضالتها المنشودة التي لا تألو في البحث عنها جهدا حتى إذا التقتها تلقفتها ووعتها وعضت عليها وحفظتها وصانتها واعتنقتها...
فأنى هي تلك..
" الحكمة ضالة المؤمن "...
ولماذا هي ضالة المؤمن ليس سواه,, لأن القلوب المؤمنة هي التي تعرف للحكمة قدرها وهي التي تقتات عليها لتحيي فيها نبض التقوى حيناً من بعد حين,, ولقد صبَّحنا زمان يعبر فيه كل عابر على فصيح البلاغ من بينّات الكتاب, وبدائع الإعجاز, فلا يفقهها ولا يتوقف لديها ولا يتدبرها ولا يحياها بل لكأنما هو ليس يراها وكأنه هو أعجمي الفؤاد والفهم والهوى...
أَيُّها المُنكِحُ الثُرَيّا سُهَيلاً *** عَمرَكَ اللَهُ كَيفَ يَلتَقيانِ
هي شامِيَّةً إِذا ما اِستَقَلَّت *** وَسُهَيلٌ إِذا اِستَقَلَّ يَمانِ

* الحمد لله الموكل بسرائر العباد العالم بما بين أيديهم إذ يفيضون فيه والحمد لله القريب الرحيم, الحليم مع علمه, المتفضل على خلقه بكل معروف جميل, والحمد لله الذي سترنا وأمهلنا وعفا عنا, وأعزنا بدينه ورزقنا من الخير والنعم كرامة لا تحصى, نستغفره ونتوب إليه, ونبرأ إليه من سوء الكسب ظاهره وباطنه, ومن جريرة الذنوب وحرارتها في القلب, وعكارتها وظلمتها وذلها, له أسلمنا وبه ءامنا, وإليه أنبنا وإياه سألنا,
لا إله إلا هو ولا حول ولا قوة إلا به, سبحانه هو العظيم الحليم الكريم رب العرش العظيم, غفرانه, ربنا ءات قلوبنا تقواها , وزكها أنت خير من زكاها , أنت وليها ومولاها.

  Reply With Quote