View Single Post
Old 03-19-2011, 06:44 AM   #48
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

بقرة في زمن الثوب البهيج

د.بشرى الفاضل

درديري زميلنا أنا وطيفور. جئنا في زيارة له بقريته بعد إلحاح منه فنحن
معاً لا نستطيع أن نأكل الكسرة المرة في الوجبات الثلاث، ودرديري يغيظنا
مغتاظاً وننبهه لملاريا الجزيرة التي تأتي بها حشرات تشبه الضفادع، قال طيفور
ينبغي مغالطة القاموس أن أسماها بالناموس.
حكى الدرديري ونحن في بطن حقل الذرة، والريح طينٌ مرويٌّ والقرية
وراءنا ، صياح وثغاء والمعضلات أمامنا فقال:
- كان قلبي في طفولتي جامحاً، أجنحته رنين الكلمات. وكانت طيور
خيالي وخيدعي، تطرق أبواب الكون الهائل، وتخسف مرتدة في رحم الأرض،
حيث ترى عظماً متآكلاً هنا وحجراً هناك أو تشهد العمليات الجنينية لنشوء
جذور النباتات. ) قاطعناه وواصل( كنت أظن أن الحكومة هي عربة الجيب
)ضحكنا( وكلمة مدينة لدي تعني الفرح. أما الفرح فهو عندي ثوب بهيج
الألوان، صارخها، مضمخ بعطر ) الصاروخ( الحاد الفواح.
) جلجل طيفور بالضحك وناكف درديري وهو مع نوادره وملحه فمزاجه
متقلب.فطلبت من طيفور الصمت ففعل(.
- وهكذا اتفق – واصل درديري – أن اشترى والدي بقرة سمينة وضخمة
ووسيمة. وكانت تلك أول شيء بمثل هذه الضخامة يلج بيتنا المتعب.وبديهي

أن البقرة حين شارفت صحن دارنا، أربكت شعر جلدي إذ قام تعظيماً لها. كان
والدي منشغلاً عنها. وكنت أعجب لذلك. أدخلها بمساعدة عبدالرازق الراعي
ثم هرع سريعاً للديوان. يشارك أخوتي – ممن هم أكبر مني– الاستماع. كانت
القرية وقتها في حالة استنفار. ألف مواطن وعشرون مذياعاً. وأشهد بعيني
طفل كيف كان المزارعون – ومن بينهم والدي – يتحلقون جماعات جماعات،
حول المذياع يستمعون إلى لغة تستعصي علينا ثم تدوي الأغاني المختلفة قليلاً
عن "لو بهمسة".
)دندن طيفور باللحن فور سماع عنوانه وعنفته. دار عراك كلامي اتفقنا
سوياً في نهايته على الصمت(.وواصل درديري:
- حين ولجت البقرة دارنا كان يوماً مشهوداً. وتسمع لفظ أكتوبر خمسين
مرة. ويسرح خيالك مرة أخرى نحو ثوب مزركش يعبق برائحة الصندل
المخلوط بعطر "بنت السودان". وفي المساء عندما حلبوا البقرة خطبت
والدتي ومدحت ضرع الوافدة الميمونة. وسمع والدي مديح والدتي للبقرة
فابتسم. كأن المديح موجه إليه. وحين كبرت علمت أن تلك الابتسامة إنما
هي ترجمة للسرور والرضا، عن الفعل الذي يجلب البهجة للزوج والولد.
قالت والدتي:
- مبروكة
ثم أعطتنا لبنا؟ كثيراً جداً وساخناً. وشربنا منه حتى تململت الأواني في أيدينا.
وقالت والدتي:
- كفاكم
ثم أردفت :
-بنفعكم
أحمد ما شرب اللبن. وحين أوشكنا على النوم ظل يغيظنا صائحاً وهو مدثر:
- مياو.. مياو
ويغتاظ عبدالله ويضربه. ثم:
- ناو.
فيصب عبدالله كوباً من الماء البارد في وجهه. فتسكت القطة في أحمد
غاضبة أو تستحيل كلباً.في الصباحات كانت تشدني أغنية تقول )أصبح الصبح(.
وكنت أفهم أن ذلك الصوت الراقي يعلن لنا أن يوماً جديداً قد أزف. وعندما
يحل المساء أسمع مرة أخرى "أصبح الصبح" .عجبت جداً أول الأمر، وقلت
هذا الرجل كاذب. الدنيا ليل وهو يقول أصبح الصبح وسألت والدي فنظر
في وجهي ملياً لا شك أنه كان حائراً. ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وقربني
إليه ثم قال لي بصوت خفيض كأنه يخاطب رجلاً كبيرا:
- البلد حاصلة فيها كركبة.
لم أفهم ولكن طيور خيالي حال سماع لفظ البلد طارت نحو الحواشات وكلمة
كركبة ذكرتني )بالكراكة أم دلو(. اختلط فرح الناس بفرح أمي وأخوتي
وفرحي بالبقرة فصارت على مر السنين عندي مقرونة بأحاسيس تلك الأيام.
وكلما سمعت نشيداً تذكرت بقرتنا تلك بل كانت أكتوبر أيامها تعني لي "
الثوب المزركش الذي اشتراه أبي لأمي ورائحة )السيد علي( في زمن دخول
البقرة لحظيرتها". وعندما كبرت وعرفت المعنى الضخم لأكتوبر خجلت من
ضيق أفقي الذي جعل من سماء الثورة اللامحدودة، خرقة قماش محدودة
بتسع ياردات. كانت السنوات الست أو السبع التي تلت عام البقرة مؤرخة
بنشاطها وحوادثها. تقول والدتي لوالدي:
- متين جاك الطرد من تاج الدين قبال وللا بعد اشترينا البقرة؟
ويجيبها والدي
- وكت البقرة طرحت.
وتسألني والدتي أو تسأل أحمد وعبدالله: أسوي ليكم شاي؟
- لا. بعد ما نعشي البقرة ويحلبوها.
دخلت تلك المرهاء أم غرة حياتنا، ملأت علينا فراغ الطفولة الشقية
بالعمل، وملأت معداتنا العفويات باللبن وشرايينا بالدم.
ومن عجب أنني شعرت بتحسن في مستواي الدراسي تلك الأيام بفعل
لبن البقرة. )ضحكنا طيفور وأنا.. وواصل درديري(: سررت لهذا الاكتشاف
وصرت أنتبه له وأجريت المعادلات الرياضية التافهة الكبيرة وقتها: كوب لبن
= حل مسألة حساب؛ كوبان = حل المسائل كلها وحفظ سورة في الصبح؛ ثلاثة
أكواب= قراءة مقرر التاريخ وفهمه. فهم التاريخ يا للاكتشاف المذهل. وفي
ذات يوم قررت شرب عشرة أكواب. وقلت حينها لنفسي سأشرب كمية من
اللبن تمكنني من الانتقال من السنة الثانية الوسطى للثانويات مباشرة – وكنت
تلميذاً خارجياً - وشربت الأكواب العشرة سراً ذلك المساء وبدلاً من دخول
الثانوية دخلت المستشفى.
مرت سنوات. ثم كبرت، وكبرت البقرة فأصبحت رمزاً للوفاء. نقدم طعامها
رغم أنها هرمت ولم يهرم النشيد. لم تعد تلد. وبدلاً من أن يلتقي جيل البطولات
بجيل تضحياتها التي كانت تساق للذبح؛ التقى ظلفها بحجر فتلبس الأخير
فيه ثم حل بالقرية الطاعون البقري فنفقت البقرة الأمثولة.
لو علمت بي جماعة الرفق بالحيوان لمنحتني وساماً. ما بكى مثل بكائي
خريف ناجح، ولا بكى شجر بامتداد رصيف بدمعه الأصفر أغزر من بكائي
عليها. بقرة الحسن والوسامة، بقرة الصحة والإجابات الصحيحة في امتحان
الانجليزية بقرة الفرنسية وبقرة الجغرافيا. كان شباب قريتنا أيام حماسهم
بالعهد الجديد قد كونوا جمعية لحرق الحيوانات النافقة اجتمعوا ومن بعد
تناقلت القرية لسنوات محضر ذلك الاجتماع الشفاهي.
- بلدتنا، قال معروف، تحتاج للنظافة العامة وحرق القاذورات واجب
عاجل. اقترح أن نحرق البهائم الميتة.
- اقترح نعمل مقبرة للحيوانات – قال برعي – لأنو الدين يحرم حرق
الجثث ونحن ما بوذيين و..
- يحرم؟ - جيب لي دليل بي آية واللا حديث
رد عليه معروف.وتجاذب الشباب المشروع واشتد الحوار واحتدم ثم
أوشك الشجار السياسي أن ينفجر. انتصر رأي معروف. وقال معظم الشباب:
دفن البقرة يحتاج لحفرة بحجم صهريج الماء؛ اولبقرة ليست انساناً. وصاح
مختار الجانبي – وهو شاب طريف يهتم من كل مسألة بأطرافها الثانوية:
- انتو تعالوا النسعلكم البوذيين البقول عليهم برعي ديل شنو؟
قال معروف نحرق الحيوانات النافقة درءاً للأمراض وتخليصاً للقرية من
سور الروائح النتنة الذي يطوقها كحوش السجن الكبير. وهكذا تم حرق كل
حيوان مات في السنة أو السنتين اللتين تليتا الثورة. ثم بدأ حماس جمعية
حرق الحيوانات النافقة يفتر.خرج من عضويتها في تلك الآونة حسين وكان
يرعى مقاطعاً مع عوض الجيد الضاحك منذ أيامها الأولى. ثم خرج على الطاهر
وعثمان حسن السر. والبقية مات نشاط الجمعية دون خروجهم. فكأنما الأمر
والحال هذه حال قوم غطتهم قطية منهارة. مضت سنوات ونسينا الجمعية.
وهكذا عادت حليمة لقديمها ونفقت بقرة بت علي ولم يحرقها أحد. بل خرج
أهلها وألقوها في الأرض البور قرب مشارف القرية ثم نفقت بقرة حاج الطاهر
ثم بقرتنا وحدث الشيء نفسه، خرجت خلف جنازة بقرتنا وأنا ممنوع من
الاقتراب أو التصوير بفعل زجرة. فقط خلفها. وحين وضعوا جثتها المنتفخة
فوق الكارو، انحدرت من عيني دمعة.
مضى يوم وليلة على فقدي الممض للبقرة. خرجت وكنت قد شببت عن
الطوق وأصبحت شاباً له أنفة وحدة وفتونة. رأيت المدينة عنابها وعذابها.
خرجت وقد أدخلت يدي في تجاويف بنطالي . أقدل كرعاة البقر الأمريكيين.
قالت والدتي: وين ماشي؟
قلت لها:
- طالع للخلاء مثلي مثل الناس.
قالت:
- يا ولدي الدنيا ظلام. ارجع.
فلم اسمع ورددت العبارة المألوفة:
- ) طالع زي الناس(.
عند مشارف القرية أبصرت جثة بقرتنا. تبدو أكبر من حجمها ومعلقة
كسفينة على الأفق أمعنت النظر فرأيت كائنات تتحرك حول الجثة. ولم يكن
المرء يتطلب تفكيراً على نحو ما ليدرك أن السوائم تلك ما هي إلا كلاب.اقتربت
حتى بقيت مائة خطوة. نعم كلاب. يا للهول ! سبعة كلاب بنية جميعها
وضخمة، كأن الواحد منها جحش، عيونها البراقة متيقظة وتبدو أجفان عيونها
في الظلمة كأجفان شخص متعب. تتحرك فيما بينها بسرعة كأنها حشرات في ماء
راكد، ككائنات الترع. دنوت أكثر. نعم. هي في حالة عراك دموي. تتحلق حول
الفريسة. كل كلب يقاتل كل كلب ليفوز بالغنيمة وحده. وهي إن اشتركت
لتركت بقاياها للعقبان من فرط الشبع ولكن الوحوش لم تسمع بقانون عدالة
التوزيع. هذه الوحوش الغاضبة تستخدم قنابلها الصوتية البشعة وأنيابها التي
تشبه دلو الجرافة )الكراكة( التي تقبع منذ المهدية في ترعة القرية. كلاب
كهذه ما رأيت. ولا كصنفها ضخامة. كانت القرية تتكلم عن الشياطين. حكى
ذات يوم ، حين كنا أطفالاً، مختار الجانبي والناس مشغولون بالقرشي حكى عن
مسافر ليل متعب تمنى أن يسعفه الله بوسيلة مواصلات وعندما أعياه السفر
والمشي وضنك الطريق ولم تأته استجابة فورية طلب الله مرة أخرى فقال:
- يا الله أي شيء يوصلني إلى أهلي حتّ لو كان بساط الريح أو الجن:
) ضحكنا وسألنا درديري عن مختار ولماذا يسمى بالجانبي وما إليه ثم لزمنا
الصمت حتى لا نخرج درديري من الفورمة(.
وواصل الدرديري:
وهكذا استمر ذلك الرجل في أدعيته الوصولية حتى برز له من لا شيء في
وسط تلك الصحراء جمل ذو بأس . أناخ المسافر الجمل وصاح فيه :
- يلا بينا.. جابك الله. ودينا ود الجمل.
وكانت ود الجمل قرية وديعة في عمق الجزيرة . قال مختار الجانبي صار
ذاك الجمل يمشي بتلكؤ ثم حرن وتوقف عن السير. ووجد المسافر على ظهر
الجمل جراباً ففتحه فوجد به سوطاً جديداً ينضح بالقطران. فضرب الجمل
والإبل حقودة فيما يقولون. اختزن الجمل الحقد، وصار كلما يتلقى سوطاً
يطول شبراً ثم صار السوط بمتر من الارتفاع. قال الجانبي صار الجمل أطول
من أطول عمارة في الخرطوم. وهنا توقف المسافر عن الضرب ولكن الجمل
ما توقف عن إنو يطول . توقف نعم لكن عن السير. الجمل في النهاية بقي
مثل برج فرنسا في الطول. طول السما أضاف مختار الجانبي وبدلاً من الخوف
استل المسافر سكينه وقال للجمل:
- ما تقول عفريت واللا شيطان. وحات تربة والدي إن ما نزلتني أضبحك
جخ ..خ.. خ.. خ.

  Reply With Quote