View Single Post
Old 03-06-2011, 05:23 AM   #47
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

النفي والاغتراب:
ألمحنا أن "أزرق اليمامة" تأتي انحيازاً للعادي، والمهمش، فأزرق اليمامة لايضطلع بذلك الاستشراف المهيب للمستقبل مثلما زرقاء اليمامة، قصارى جهده أن يستشرف مستقبله هو، منقباً عن كوى من الضوء تنير عزلته، عن قطرة واحدة تندى حياته الجافة التي تزلزلت تحت قساوة واقع لايطاق، سيما مع تفاقم الوعي بوطأته، إن استشرافه أساساً لإشباع حاجاته الأولية التي قمعتها مطارق الواقع. أزرق اليمامة، محمود، لايلبث أن ينزاح للهامش، إنها مأساة الذات المزاحة بفعل القهر عن مركز الفاعلية الإنسانية، مما يسلمها
رويداً إلى اغتراب حقيقي، الاغتراب هنا ليس بالمعنى الفلسفي أو الوجودي الذي تهيمن فيه قدرية كونية غامضة، مثلما عند عبدالصبور مثلاً "تعالى الله هذا الكون موبؤ ولا برء"، إنما بالمعنى السيسيولوجي، السياسي، ومن ثم لن يتبقى لأزرق اليمامة من هامش لممارسة حريته سوى أحلام يقظته المصادرة بكوابيس النهار "وهكذا أسلم محمود نفسه لهذه الظلال الحية". وحتى يكتمل غيابه، اغترابه، يتشيأ محمود "أصبح جسمك سيداً للمكان وشعرت بمنعة وجيشان .. ولمست بيدك الضخمة التي تشبه جذع شجرة وجهك الذي استدار وانتفخ فأصبح كبطن فيل. عيناك هناك .. هناك .. قمران .. كشافتان". هذا التشيؤ المخترق بلمسات إنسانية، خطوة أخيرة للاستلاب والأيلولة للافاعلية، الإنسجان في قمقم الشيء، لكن حيويته فقط أنقذته من صمم التشيؤ "وألهب محمود خيال تلاميذه فكف عن الرياضيات وصار يحيرهم بكشفه الباهر واختلط حابل الحصص بنابل الحياة فأصبح محمود يدرس مادة واحدة أولها رياضيات اسمها الكون". يكتمل نفي الفرد في "أزرق اليمامة" بالسجن، السجن الذي تمارس فيه السلطة أنقى درجات قمعها، ففي السجن «تكف السلطة أن تتخفى، يسقط قناعها، وتظهر كيف أنها طغيان مندفع في التفاصيل الأشد تفاهة، هي ذاتها وبكل وقاحة، وفي الوقت نفسه كيف هي نقية، مبررة كلية، طالما أنها تستطيع
صياغة نفسها كلية داخل أخلاق تؤطر ممارستها أنئذ يظهر طغيانها وكأنه سيطرة خالصة للخير على الشر »، هو صورة السلطة الأكثر هذياناً بتعبير فوكو.
في "المشنقة الأفقية" ينفجر صراع النص مع السلطة في أكثر بقاعها يباساً: السجن -الذي يطال حتى أولئك الذين ظلوا بمعزل عن كل شيء كمختار - الجانبي- في إشارة إلى أخطبوط الشر الذي لايكاد ينجو منه أحد -عبر بنية غرائبية السجن، ولامعقوليته، في إطار كابوسي له جذوره الواقعية «وأقبل الأطفابوعيون على الدم يتلمظون، ترجف شفاههم وتلمع عيونهم لدى رؤيته »، ويأتي التعذيب من قلب هذا الكابوس «وكذا نفق مختار . لم
يكن موته سهلاً - ففي البداية مطوه حتى تهتكت أنسجة عضلات البطن والصدر والأيدي والرقبة، ثم أصيب بنزيف داخلي أدخله في إغماءة أعفته من الآلام حين انفصلت الرقبة. مرت مأساة الرقبة بمراحل. في البدء تقطعت أوصال الأعصاب والعضلات، ثم تهتكت الأنسجة فانقطع اللحم عن العظم، ثم انفصلت السلسلة الفقرية فأصبحت هناك عظمتان بينهما دم تجمع في الجمامة بينهما. أما الجلد فلم يتمزق... » موصوفاً بلغة حيادية بدقة جراح، مرسخاً لمدة ثقله، الوصف لايتم خارجياً على نحو ميتافيزيقي، أو عاطفي إنما يتم بهذه الدقة الحيادية مستثمراً استراتيجية الارتكاس inversion عبر إبعاد النزعة العاطفية من قلب المشهد ليبقى المتلقي في حالة انتباه كلي للنص، انتباه يقظ واع دون استلاب عاطفي أو مصادرة، ليكمل القارئ، دون بكاء، عناصر الصورة المكونة لعذابات مختار، وانسحاقه الكلي تحت جبروت القهر.

الأسطرة:
لن نتفيأ هنا تقصي استراتيجية الأسطرة التي تجلت بشكل باهر في مجموعة "حكاية البنت التي طارت عصافيرها"، وشحبت في مجموعة "أزرق اليمامة" بسبب طبيعة حوارها مع الواقع، وتبنيها لاستراتيجيات نصية مختلفة .. فهذا يستلزم دراسة موسعة، منفصلة، تستقصى اشتغالها المدهش في مجمل
أعمال بشرى سيما في "حكاية البنت...".
تقلصت سطوة الأساطيري كثيراً في هذه المجموعة، وإن كانت قد برزت في ثلاثة نصوص هي: "أسطورة البحر السفين"، "انتحار البعير والناقة"، عبدالقيوم الرأسي"، بالإضافة إلى نص "جيم حاء خاء" الذي مزج بشكل باهر بين الواقعي والغرائبي عبر انفجار النص ضد السلطة ممثلة في واحدة من أهم آلياتها:

الخطابة بما هي خطاب لاعقلاني، عاطفي، انتهازي ولأننا لن نتفيأ، هنا تتبع آليات عمل الأسطورة في مجمل أعمال بشرى الفاضل، كما أشرنا، فحسبنا أن نشير إلى آلية واحدة تعمل بها الأسطورة عند بشرى الفاضل وذلك للكشف عن إحدى استراتيجياته النصية في التعامل مع القهر باعتباره اختلافاً. فإذا كان إدوار جاليانو مثلاً يعمل على رد الطاغية إلى عاديته، وضعه في مصاف العادي مصنفاً إياه كموظف بائس، مجرد جرو بيروقراطي تمهيداً لمواجهته، ومن ثم سحقه: "ممارس التعذيب موظف. الديكتاتور موظف. إنهما بيروقراطيان مسلحان سوف يفقدان مهنتهما إن لم ينجزاها بشكل فعال. إنهما ليسا أكثر
من ذلك. ليسا مسوخاً فوق العادة. ونحن لن نمنحهما ذلك الامتياز "فإن بشرى الفاضل، على نحو مغاير، يحوله إلى مسخ تمهيداً لتحويله إلى اختلاق محض عبر استراتيجية الأسطرة.
يقول د. محمد عصفور: «يمكننا أن نترجم مصطلح "الكذبة" بكلمتين أخريين لاتفزعاننا هما "الأسطورة" و"القصة القصيرة" فلو قلنا مثلاً إن العنقاء أسطورة من الأساطير فإن المعنى المباشر للكلمة هو أنها كذبة -أي أن العنقاء لا وجود لها، لكن هذا القول لايعني أن معنى الأسطورة كاذب. فمعنى التجدد
من خلال الاحتراق معنى نقبله على أنه ذو دلالات عميقة .» على ضوء ملاحظة عصفور هذه يمكن أن نقرأ في المشنقة الأفقية: «وكانت ستمضي الحياة بمختار إلى غايتها دون ضجيج لولا ظهور الطفابيع في مدينة القصبة . استقامت الشمس عمودية طوال السنين التي مكثوا فيها حاكمين)حكم الطفابيع لسنوات قليلة( . ولكن الطفابيع هزمتهم بصورة حاسمة خراطيم المياه. فقد اكتشف طفل من أبناء القصبة أن الطفابيع يخافون من الماء مثل الكلاب المسعورة . وما أن بدأت الحملة حتى تساقط الطفابيع كذباب في حضور مبيد حشري عنيد. .»
يؤسطر بشرى الطغيان هنا، يجرجره لأحبولة الغرائبي من أجل تحويله إلى اختلاق محض يؤول في المطاف الأخير إلى كذبة لا أساس لها في الواقع الفعلي،وذلك لفضح مدى هشاشته، ونصاعة حضوره الفج كما نلمح في إشارات النص المتناثرة: «اكتشف طفل « ، .. » كذباب .. » إلخ إلخ، هكذا يتم جرجرة القهر إلى متاهة منسوجة من حبائل اللغة، تضليله في الدروب المتشابكة للغة، لمتاهاتها العصية، حيث ينزلق تدريجياً لهوة النسيان: «حكم الطفابيع لسنوات قليلة » ولذا كان من الطبيعي أن يعلق الراوي «قصة اندحار الطفابيع فكهة »، أي عبثية لتليق بهم.
هذه المقاربة/ الثرثرة النقدية التي حاولت إضاءة بعض التقنيات النصية للخطاب القصصي عن مدى تفرده ومغايرته للخطاب القصصي الشائع، ولا إنصياعه لموات كتابة يعاد استنساخها في دائرة لانهائية الملل تأتي، أيضاً، احتفاء بقاص كبير تأخر الاحتفاء به كثيراً، نأمل أن تتلوها مقاربات أخرى تقارب الخطاب الأدبي السوداني، سيما المضمر منه، بعدها نأمل أن تخفت، ولو قليلاً، الأصوات التي ظلت تلهج باسم الطيب صالح لمدة تنيف عن ثلث قرنباعتباره درتنا اليتيمة، مختزلة -هذه الأصوات- كتابة أمة بأسرها في فرد.

• د. هاشم ميرغني

  Reply With Quote