View Single Post
Old 03-06-2011, 05:23 AM   #46
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

التصحيف الدلالي للموروث:
العنوان الرئيسي للمجموعة "أزرق اليمامة" يشف عن تصحيف دلالي وبنائي للموروث، فهو لايعني باجترار دلالات هذا الموروث "زرقاء اليمامة" والتي استهلكت في الخطاب الشعري المعاصر كدلالة على استشراف المستقبل،وتلمس إشاراته ونذره من خلال سجوف الحاضر وحجبه، وهي دلالاتاستهلكت حتى دائرة الانغلاق، مما أدى إلى تسطيح الرمز وضموره، وفقدانهلطاقته الإيحائية، وتنميطه، حتى صار من السهل على القارئ -غير المتمرس حتى- فك شفرته وفضح عراء القصيدة وتسطحها. ينهض العنوان هنا "أزرق اليمامة" لا لاجترار هذا الموروث، أو حتى استلهامه، بل لاكتشاف وجهه الآخر المقلوب الذي أفلت من ذهنية الساكن والمنمط، ففي مقابل زرقاء اليمامةباستشرافها المهيب للمستقبل، يقيم بشرى نموذجه المسحوق أزرق اليمامة الذي ينتمي زمانياً ومكانياً لنا ف "طي بؤس كهذا، في حرز قمقم كهذا ..
وحولك في مركز المدينة يصخبون أو يقودون أو ينقادون لبائسين مثلهم"، في ظل واقع ضاغط بكلكله كهذا لامجال لزرقاء اليمامة، هذا التحريف للموروثمرتبط بالانحياز للمهمش، العادي، المقهور على كافة الأصعدة، واضعاً القارئتواً في بؤرة النص، ونواته المركزية، مرسخاً لملامح البطل/ اللا بطل الذي كف في الخطاب الأدبي الحديث عن بطولاته الشاهقة.
هذا التصحيف الدلالي للموروث يلتقى بمثيلات له في المجموعة ففي مقابل "التقاء الساكين" النحوي، الساكنان اللذان لايلتقيان، يلتقي ساكناً بشرى، أي جاراه الساكنان، يتم التصحيف هنا باستراتيجية بلاغية: حذف الموصوف وإقامة الصفة مكانها للإيهام. أيضاً يمكن نرصد "دمعة بالبصل" في تورية ساخرة للمحكي الشعبي، هذا التصحيف الذي يمد جذوره لمجموعته السابقة" ، "حكاية البنت... " حيث نجد "حمامة فرت من قسورة" في تناصمع الآية القرآنية، كما نجد عنونة "حملة عبدالقيوم الانتقامية" في تناص مع
التاريخي "حملة الدفتردار الانتقامية" في ابتعاد لمدلول الثأر الشخصي الذي
يطال الجميع.

الإنحياز الحازم للعادي:

تشف معظم عناوين هذه المجموعة عن انحيازها للعادي كما ألمحنا، نجد "قبلالغروب " "دمعة بالبصل"، "ساقية جحا"، "ملهوف" "انفصال" "اللقمة" "المرأة المتمحركة" "التكريم" إلخ إلخ، وهو انحياز له دلالاته في ظل وطأة فظاظة الواقع التسعيني في السودان، إنه انحياز للعادي ليس على مستوى الدلالة فحسب، بل على مستوى المفردة وصياغة الجملة أي على المستوى البنائي أيضاً، انزاحت العناوين هنا عن استراتيجيات المغايرة في عناوينه الأولى "الطفابيع" ذيل هاهينا مخزن أحزان" إلخ.. إلخ . عناوين قليلة أفلتت من قبضة العادي في هذه المجموعة: "المشنقة الأفقية" ، "عبدالقيوم الرأسي"، هذا الانحياز للعادي له دواعيه وآلياته العميقة التي نأمل الكشف عنها لاحقاً في حديثنا عن جدلية النص/السلطة.

جدلية النص / السلطة

تتبدى السلطة هماً ممضاً في مجمل نصوص الحداثة العربية، حتى في أنصع نماذجها. تنوء السلطة بكلكها على عصب الكتابة العربية، يقول د. كمال أبو ديب: «تبدو الحداثة مسكونة بالسلطة، بل إنها لتبدو مشبوحة بالسلطة، بعنفها وتعسفها وبربريتها، تصبح السلطة بيت الحداثة الذي فيه تنمو، وأفقها الذي تحته تتحرك وتنتفض ». ويدير النص صراعه مع السلطة
-الصراع الذي يزداد حدة مع تفاقم الوعي بقهر الواقع، وتطوير السلطة لآليات قمعها -عبر استراتيجياته العديدة التي لن نعني بخوض تفاصيلها الآن، ويكاد أبو ديب يخلص أدب الحداثة في جذوره وتفرعات أغصانه باعتباره «تجسيداً لوعي ضدي يشتبك في صراع لايني مع هذا البعد المدمر للسلطة ». السلطة التي يكاد ينقلها فوكو إلى مصاف المتعالي حينما يصفها ب «الشيء الملغز، المرئي واللامرئي في آن، الحاضر والغائب، المستثمر في كل مكان .»
2--1 يبدو الوضع في السودان أكثر حدة، إذ انشبك الهم السياسي بالثقافي عبر فترات طويلة في تاريخ السودان، وازداد هذا الانشباك ضراوة في ظل السلطات الدكتاتورية التي استولت على دست الحكم لفترات طويلة تنيف على الثلاثين عاماً بعد الاستقلال، وقد أشار د. حيدر إبراهيم في مقدمته للعدد الذي خصصت "كتابات سودانية" محوره ل "الإبداع في السودان": إلى ذلكبقوله «لسوء حظ الشعر السوداني طغى السياسي على الفنان والشاعر فيصلاح، واستنزف الشاعر صلاح لغته ورؤاه وصوره وخياله في المعارك السياسية غيرالمجدية ». ماأشار إليه د. حيدر يمكن سحبه على قطاع من الكتابة الثقافية في السودان، وإن كان هذا لا ينفي وجود عدد واسع مع النصوص التي أدارت حوارها مع السلطة في مختلف تجلياتها دون أن تتزحزح عن جمالياتها وذلك عبر آليات عديدة: تثوير بنية اللغة، دحر سلطويتها ونمطيتها التي تعممها السلطة، استثمار طاقات الرمز، إذابة الدلالي في مختبر اللغة بحيث ينقله من مستوى الحدث/ الواقع إلى مستوى الرمز/ المجاز، انغراسها في غور الشعبي واللغة المحكية والمسكوت عنه، امتياحها من الكوني والإنساني، كما تمثل في نصوص القدال، محمد المكي إبراهيم، محمد الحسن سالم حميد، قاسم أبو زيد، يحيى فضل الله، أزهري الحاج علي، هاشم صديق، الصادق الرضي،
عاطف خيري، إلخ إلخ.

3--1 لايمكن تفسير هذه الحدة الدلالية التي وسمت الخطاب القصصي ل "أزرق اليمامة"، الذي نشرت نصوصه في التسعينات، دون أن نحيل هذه المقاربة لما هو خارج الخطاب الأدبي، لسودان التسعينات الذي دهمنا فيه كابوس الإنقاذ في يونيو 1989 . باشتداد قبضة السلطة تحكماً اشتدت ضراوة صراع النص معها شحذ النص سكاكينه، اشتدت قبضة السلطة بتحالف الأكليروس/ العسكر، التحالف الأشد سطوة على الحياة المدنية في أصغر جزئياتها: باستهداف نواة الإنسان السوداني لتغييرها، بتعدد مطارق قمعه، بالتباس السياسي بالديني، بالهوس الدائم لتمرير خطاب غيبي، لاعقلاني، يتوسل بالجذور إلخ إلخ، هذا المناخ القمعي طال بشرى الفاضل على المستويين الشخصي والإبداعي.

4--1 لانتفيأ، هنا، قراءة النص على ضوء الواقع في قراءة إسقاطية تفرغ النص من غناه الباطني، وشفراته الخاصة: أي أدبيته التي تمنحه صك شرعيته، المأزق الذي ينزلق إليه الإيديولوجي عادة، إنما نتفيأ قراءته قراءة تأويلية تساهم "بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يحملها أو يتحملها الخطاب في محاولة لإعادة بناء ذلك الخطاب بشكل يجعله أكثر تماسكاً في إحدى وجهات النظر يحملها"، نتفيأ تفحص التقنيات النصية التي أدار بها النص حواره مع الواقع دون أن يسقط في أحبولته.

5--1 ثمة مرارة مقطرة تغلف مجمل الخطاب القصصي لبشرى الفاضل، مرارة لاتخفف منها السخرية بل تزيد أوارها اشتعالاً، تتعدد تجليات هذه المرارة، وإن كانت تنبثق من منبع واحد: القهر، القهر، الذي يطال الحياة حتى أصغر جزئياتها، يتم التعبير عن هذه المرارة باستراتيجيات تتمثل فيما يلي:

الأنسنة:
في نصوص عديدة لبشرى الفاضل يمكن أن نرصد هذه الخاصية، إسباغ الدلالة على الشيء، على الحيوان، وتحويله إلى رمز مثقل بالدلالات، غالباً ما يتم ذلك بقصد تصوير المقاومة البطولية للقهر، إذ لا أحد بمنجاة عن لهب الشر "فعذاب الروح واحد"، لايتم ذلك على مستوى مضمر النص فقط، بل على مستواه الظاهري أيضاً، فالحمار الذي توغل في الماء لينتحر ارتفع نهيقه الأخير ك "احتجاج جهير ضد رهق العالم"، تحول إلى أليجوريا تختزن دلالات مقاومة القهر، الشيء الذي يمكن قوله أيضاً عن العصفور في "القمة"، والبعير والناقة في "انتحار البعير الناقة

  Reply With Quote