View Single Post
Old 03-06-2011, 05:22 AM   #45
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

"مقبرة الكلمات"

للوهلة الأولى - والأخيرة؟ تبدو مجموعة بشرى الفاضل الأخيرة "أزرق اليمامة" وكأنها تتقهقر خطوات عن رائعته السابقة "حكاية البنت التي طارت عصافيرها" إذ يفتقد القارئ: تلك المخيلة الشرسة التي تؤسطر أدق مفردات اليومي، والعابر، تحيل ذيل هاهينا مخزن أحزان، وبشر المحطة الوسطى إلى غازات. يفتقد، أيضاً اندلاعات المجاز المفاجئة كبرق. "ذات مرة خرجت مليئاً بها حتى غازلني الناس في الشوارع"؛ انزياحها القصدى عن مسارات القص التقليدية: "قف! هذه نوافير من السائل الأحمر ترشح من المداخل والمخارج، وأخرى تنز من البطن المبقورة، هل هصرت الطماطم يوماً في عيني جارك
في معظم عام حتى سال إكسير حياتها، ذلك حال عبدالقيوم، ساعة شؤم رمت به راجلاً في طريق عام، وهو الراكب شبابه كله"، ذلك الانزياح الذي سيغرس بشرى جذوره، فيما بعد، بتربة: أحمد الفضل، عادل القصاص، أحمد الملك، أحمد المتوكل ليطرح ثماره البهيجة: اللغة التي لا تعتاش على السائد والمستهلك مبحرة صوب "نهش الغنائية الرتيبة" إذا استعرنا قولاً لبنيس في سياق آخر. حبلها السري الموصول عميقاً بطبقات ود ضيف الله وعبقرية المحكي الشعبي. انتهاكها المتعمد لقالبية النمط النحوي الإستاتيكي للجملة بغية فتح آماده حد الانفجار: "وصرت شديداً جداً أبكي". نزوعها الخارق لخلق أسطورتها الشخصية المنبثقة من غور الذات لا القواميس ناضجة بدمها الشخصي الذي لايشبه فصيلة أحد: "الطفابيع" حملة عبدالقيوم الانتقامية "الغازات" إلخ إلخ. في تلك الخصوصية التي أشار إليها الغيطاني غير مرة.
يفتقد أيضاً: خلخلة البديهي، والآسن كبحيرة "بقرة في الثوب البهيج". القدرة الفذة على ارتجال مفردات من سديم اللغة وعمائها: "الطفابيع، يدندر هاهينا .. "في هوس دائب لفتح آماد النص وراء المتعارف عليه دلاليا. اختراقات النص بفرشاة الرسم: "حكاية البنت" بغية كسر أسواره وتوسيع جغرافيته لتتسع لقارات أخرى، وهي الاختراقات التي ستبلغ مداها فيما بعد في "وجوه" لقاسم حداد وضياء الغزاوي" . وما فاجأ الكد: "وجرى دمعي لا كما يجري دمع امرأة .. ولكن كالتماسيح المفترى عليها" . وما يتأبى على الاختزال.
في هذه المجموعة تتزحزح سطوة اللغة -بأوسع ما تعنيه هذه المفردة الشائكة الدلالة - عن جمالياتها الفادحة المنبثقة عن مخيلة شرسة مفسحة الطريق لاحتضان اليومي بلغة تبدو في أغلب نماذجها، نمطية حتى، آخذة بيد القارئ صوب جماليات أخرى يجترحها بشرى الفاضل في هذه المجموعة، ليكتشف القارئ، رويداً ومندهشاً، ما يتخفى تحت هذه اللغة البريئة/ المخادعة من مغايرة ل "حكاية البنت ....".
اللغة، هنا، ليست منشغلة كما في "حكاية البنت..." بتشييد بنائها المتسامي بآليات عديدة على دمامة الواقع بحيث يتأمل القارئ في مرآتها مدى فجاجة الواقع، فظاظة قهره، لا معقوليته، هزليته، أي فضح فقره مقابل غنى النص، لكنها، اللغة، مهووسة هنا باقتناص هذا الواقع، بانحيازها الحازم لإنسانه المتخبط في أحبولته بلا فكاك. لم يعد النص قادراً على موازاة بعد أن انسرب ماء هذا الواقع لمسارب النص، لممراته الداخلية محاولاً الوصول إلى نواته متسلحاً بالسلطة في أقصى تمظهراتها عنفواناً: حلف العسكر/ الأيديولوجيا، فاختلفت جدلية النص/ الواقع بصورة بائنة، الشيء الذي نأمل الكشف عن
دواعيه، وتفحص آلياته لاحقاً.

بدءاً تقر هذه الثرثرة النقدية في حضرة صاحب البنت أنها لاتطمح لأكثر من كونها بهواً أولياً لساحة هذه العالم الخصب المكتنز لبشرى الفاضل في مجموعته "أزرق اليمامة"، دون أن نمنح مفردة بهو ذلك المعنى الهام الذي أسبغه عليها لوى بورخيس حين أسس للعنوان باعتباره بهواً للنص، أي مدخلاً أساسياً له، ولكن دون أن تنحدر، هذه الثرثرة، في الوقت نفسه لمهاوي الاستسهال البشع الذي طالما حذر منه بول فاليري ) 1871 - 1945 (. يتأبى عالم بشرى الفاضل كأي عالم مثقل بعناقيد التلقي، كما تتأبى لغته كأي لغة تختنق ببذاخة أعراسها، دون أن تنزلق لفخ الرنين، على الاستسلام السهل لمباضع
القراءة النقدية.
إنها نفس المعضلة التي واجهت ناقداً بقامة رمضان بسطاويسي عند محاولته النفاذ لعوالم ضياء الشرقاوي ) 1938 - 1970 ( حينها كتب "يعترف الباحث أن تجربة قراءة ضياء الشرقاوي كانت مضنية إلى حد كبير، فهي أعمال لاتمنح نفسها بسهولة لمن يتناولها. وقد عزا بسطاويسي الجمالية في بحث قاس متصل عن شروط مختلفة لجماليات القصة القصيرة.
استطراداً تقفز لذهن هذه القراءة القصة قصيرة التي كتبها بورخيس مع صديقه بيوي كازاريس عن ناقد يريد القيام بوصف الكوميديا الإلهية لدانتي: "وفي 23 شباط 1936 م كان يبدو أن كل شيء قد أصبح رائعاً لأن
وصف القصيدة يتطابق مع كلماتها .. وكتصور ذاتي ناضج ألغى المقدمة والهوامش والفهرست واسم وعنوان الناشر .. وقدم القصيدة نفسها للمطبعة. وتعلق الناقدة الأمريكية - اللاتينية د.ب. غالفر على قصة بورخيس بالقول أن مشاكل الحجم وحقوق المؤلف لم تسمح لها بالقيام بنفس الدور، سيما في أعمال بورخيس .. وللأسف يجب القيام بالمحاولة. نعم، للأسف، يجب القيام بالمحاولة.
إنها تلك الإشكالية الأزلية إذن: المتاهات السحيقة التي يغوي النص الناقد إليها، يجرجره لسراب الاكتشاف. علاقة النص/ الناقد تبدو لي مثل علاقة ودان إبراهيم الكوني مع وسوف "الحيوان الهائج يشد من جهة وهو يتشبث بالحجر من جهة أخرى. أحس بأن يده ستنسلخ وتنفصل عن كتفه، ولكنه ضغط على نفسه، ولم يتخل عن الحجر .. سائل يغمر وجهه: العرق، وسائل يغمر ركبته وساقيه: الدم أما ملابسه فقد بدأت تتمزق منذ أن بدأت المعركة في الوادي، اقتطعت منها الأحجار والأشجار التي مرا عليه في طريقهما إلى
معلقة في القمم". إنها أمثولة النص/ الناقد كما تتبدى لي في بعض حالاتها، ثمة علاقة أخرى تقوم بين النص والناقد هي علاقة الإغواء إذ يغوى النص الناقد، يُغريه بسهولة الاكتشاف والامتلاك، وفي نهاية المطاف يخرج الناقد
صفر اليدين منتحياً خيبته، مطأطئاً سيرته في الغياب. تدليلاً: فإن هذه المقاربة / الثرثرة النقدية التي بدأت سطورها الأولى عقب ظهور "أزرق اليمامة" لم يتح لها أن تكتمل إلا بعد عامين من ذلك، تعثرت بلا هوادة في عراء خيبتها وهي تجاهد للإمساك بالنسج الحي لعوالم بشرى الفاضل العصية، وفي النهاية اكتفت بملامسة سطح نصوص. "أزرق
اليمامة".
دون أن تجرؤ على النفاذ إلى دوامة الإغواء الباطنية للنصوص مرجئة ذلك إلى فرصة أخرى تتأجل باستمرار. وحتى لاتبدو هذه القراءة مفتقدة لمحاور ارتكازها فإنها تقترح المحاور
التالية لتفحصها، وهي محاور تمثل سمات أساسية - ضمن سمات عديدة أخرى لن نتطرق إليها هنا - وسمت هذه المجموعة وتؤسس خطابها الجمالي / الدلالي بتشابكها، وتقاطعاتها:
• استراتيجية العنونة.
• جدلية النص/ السلطة.
• الانحياز لليومي والهامشي لغة ودلالة.
• الأساطيري والغرائبي.

استراتيجية العنونة/ أزرق اليمامة

يحتل العنوان قطباً هاماً في الخطاب الأدبي والنقدي باعتباره مدخلاً أساسياً ندلف منه لدهاليز العمل الأدبي ومساراته المتعددة، وقد فرغ النقد الأدبي من اعتبار النص الأدبي يتضمن نصاً موازياً يفككه جيرار جينيت إلى:
- النص المحيط: الذي يتضمن فضاء النص من عنوان ومقدمة وعناوين فرعية، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب ككلمة الناشر.
- النص الفوقي: وتندرج تحته كل الخطابات خارج الكتاب المتعلقة به والدائرة في فلكه.

ويرى ميشيل حليفي: "إن العنوان مرجع يتضمن بداخله العلامة والرمز، وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته، أي أنه المتحركة التي خاط المؤلف نسيج النص عليها". كما يذهب إلى أن العنوان في التوجه البلاغي الجديد فضلاً عن أنه مفكر فيه "ينجز معنى باطنياً يشكل النواة - البؤرة للعمل الأدبي من خلال إمساكه بمجموعة النسيج النصي في تقاطعاته وتغذيته للقراءة والتأويل". يشف العنوان عن مدى تقليدية النص، أو حداثته، عن الزاوية التي اختارها المعنون لتبئير نصه، وأيضاً عن علاقة
التناص التي يقيمها مع النصوص الأخرى.
في عناوينه السابقة كان بشرى ينزع لعنونة تنزاح عن السائد، تنز باكتناز دلالي وبنائي يؤسس لهذه المغايرة الانزياح: "بقرة في زمن الثوب البهيج"، "حكاية البنت التي طارت عصافيرها"، "ذيل هاهينا مخزن أحزان". في عنونة مثل "حكاية البنت التي طارت عصافيرها" كان يتم اختراق محور العادي فعبارة "حكاية البنت" المتماهية مع الحكي الشعبي دلالياً وبنائياً سرعان ما يتم اختراقها عبر أسلوبية الإحراف فتنتقل من مستوى المحكي الشعبي إلى مستوى الأسطوري، الغرائبي، المجازي، المتخيل بعبارة "التي طارت عصافيرها"، الشيء الذي يمكن قوله عن أغلب عناوين المجموعة. مما يشف عن إنحياز للأساطيري والغرائبي في بناء مواز للعالم الواقعي يقيمه مقابل قصة التفاصيل
والحياة اليومية التي أغرقتنا بآلاف القصص "الواقعية". في العنوان "أزرق اليمامة" يمكننا أن نرصد استراتيجيات نصية مغايرة في العنونة تتمثل فيما يلي

  Reply With Quote