View Single Post
Old 01-23-2011, 06:04 AM   #42
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

الناس من الطاعون ولكنها اقتفت أثري وصاحت )تهاجر؟( )قلت( لا)ثم صحت: يا دينق يا دينق( وقفز الصديق دينق لنجدتي. وصرخ فيها:
- وهْ ) 1(! – فهربت لديارها تنضح بالبترول. ثم أني قلت يا دينق يادينق .... وتجولت مع دينق حذاء النيل في ذلك الوقت الغريب فرأيت الناس يكرهون حياتهم التي يحيون، وخرجت التماسيح من النيل من شدة الحر وقسوة ودكتاتورية الضفاف. قالت الأسماك والتماسيح: هراء كيف نقضي العمر سابحين في نهر واحد؟ فقال لها النيل: موتي إذن.
وخرجت جميع كائنات النهر تتظاهر كما خرجت البيوت والعمارات متعاطفة مع البشر.
واهتزت الحافلة فقالت خادم الله وهي تبتسم:
- قول بسم الله.
فقلت.
فسألت:
- وما لك مخلوع كدى؟
ضاع مني كل خيط بعد صحوتي عن أمر الركاب الذين عنهم أحكي. إذ أن الشمس لفحتهم لفحة وهم مسبحة تدور بما أسلفت وحين ازداد هدير البص عند منعطف ما وأطلق دخاناً وعبق المكانبخليط من الروائح فتلبكنا جميعا ركاباً وحديداً وسائقاً وكمسارياً. مثل قطعة صابون تغلي في ماء. ثم تحولنا إلى كتلة ودك، هشة متماسكة وخالية من المسام. اختلط حابلنا بنابلنا وسكرياتنا بتوابلنا ورافضنا بقابلنا. هل هززت إليك بجذع دومة حتى تساقط ثمرها صلباً قوياً؟ ثم أخذت مما تساقط ثمرة فهززتها حتى ارتج ما بداخلها؟ ذلك حالنا في تلك الحافلة في ذلك النهار ذي الموجات الإذاعية الحارقة الطويلة كتلة واحدة
غبراء ومتلبكة. لا لسنا العجوة ولا الساردين كما يظن خيالك. ولكننا أبناء الكوارث والصبر غير الطيب فمن يحولنا من؟ من يحيل فسيخنا بطيخاً؟
قال الدرويش:
- الحي.
وقال الجميع )قيوم(.
ولم يضحك أحد هذه المرة. أصبح السائق ، أي قطعة الشحم في أول الكتلة الودكية ، يقف في كل محطة فتدخل أمواج متلاطمة من البشر، كل موجة تلاطم موجة وما أن يستقر من ركب في وسط الودك حتى تسري فيه الحرارة فيتلبك. أما من الناحية الباب الأمامي فلا أحد ينزل. حاول قاسم الشرطي أن ينزل وكنت جاره قبل أن نتلبك، فوقفت أعضاؤه بعضها فوق بعض، تساقطت عيناه وحاجباه وأنفه وفمه ثم تفككت مفاصله وانفصلت عن جسده بفعل الحرارة واختلطت أعضاؤه وتباعيضه بأجزائنا وتباعيضنا وهكذا أصبحت الكتلة جسداً واحداً مهموماً وساخناً وذات مصير مشترك، أصبح الراكب للراكب كالبينان يشد
بعضه بعضاً إذا تحرك منه عضو تألمت سائر أعضاء البقية بالتعب والمجابدة. مر أحد بغاث البرجوازية في محطة ذات إزعاج بمركب نوح التي نركبها، وكان قبل ساعة من مروره يخطب ويخطب حتى أدركه النعاس فنزل من صهوة عبارة مستهلكة مضغها خمس مرات وصفق له جمهور من دهاقنته عشر مرات وكان بعض التصفيق للتحية والمجاملة وبعضه الآخر للمجاملة الصرفة. مر ذلك العالم العلامة الأريب المناضل حتى آخر السكباج، بالقرب
من سفينتنا ومد أنفه فاشتم رائحة حيواناتها ومتاعها وبشرها ثم حمد الله أن
لديه عربة تقيه من شر حاسد إذا حسد.

ثم أن سائقنا انحرف عن الشارع يميناً ليتفادى طائشاً آخر فمالت سفينتنا حتى ضجت الكتلة الودكية كأنها تبكي عزيز قوم. وتسمع لفظ المحافظة.. المحافظة.. المحافظة يتردد كالفاتحة في ما تم ذلك العزيز وسخط بعض الودك من قطعة الودك التي كانت في المقدمة وأوشكت هذه أن تقول:
- أنا ودكاية مثلكم ولست سائقاً.
ولكن السائق الذي كانته ارتاح على مخدة ذكريات أيامه الغوابر حين كان يعمل بالجزيرة أيام شبابه، كان يقود شاحنة تجارية يرقد في بطنها بدلاً من البضائع ركاب سعداء. أفواههم مفتوحة على مصاريعها وأسنانهم صفراء لوَّنها الجهل والبؤس. وتعلموا فتح الأفواه بالوراثة من آبائهم الأولين، بعضهم مريض، والبعض الآخر مريض أيضاً ولكنهم قنوعون بحياتهم ومتآلفون ودودون وكرماء. كانت الشاحنة قد تعودت أن تغير في سهول الجزيرة وأن تدخل من قتام في قتام، وكان السائق في زهو العرسان، يشعر بأنه ملك هذا الحديد ومسخره كأن داؤد النبي جده، وكان أطفال كل القرية يعرفون الشاحنة من
صوتها، إذ ما أن يدلف بها السائق في فم فناء القرية حتى يحيطها الأطفال بأسمالهم وذبابهم وبطونهم المنتفخة مرضاً وفراغاً. ثم ينسق السائق من أنغام البوق ميلودية محببة لجميع الأطفال ويغنيها حتى تسمع القرية كلها صوت )البوري( الصاخب يهدر :
- )سيد اللبن جا يا نفيسة(
فيرد الأطفال:
- )طالبني قرشين في المريسة(.
ويغني البوق:
- )سيد اللبن جا أنا مالي(.
ويرد الأطفال:

- )طالبني قرشين في التسالي(.
ثم تخرج الشاحنة من فناء القرية.فيشيعها الأطفال بالحجارة ويلف ركابها الغبار. ذلك جزاء سنمار ويصيح صائح أشعث:
- شفع مطلوقين
ولكن السائق سعيد والأطفال أسعد. ذلك زمن )حليل زمن الصبا( أما الآن فهو يبدو من خلال كابينة قيادته كالنمر الحبيس بحدائق الحيوان. حتى الأطفال يهزءون به وهو لا يتحرك ببنت مخلب ولا ناب. ها هو الآن يتحول أيضاً مثل ركاب الشؤم إلى ودك قابل للانزلاق والتلاشي.
سكت السائق من تأملاته فسكتت عنه. وجرف سفينة نوح لقلب الشارع ثم جرى بها جري حرائر الإبل وأوصلها لشجرة المنتهى من المحطات وهناك لفح الهواء الساخن كتلة الودك الصلبة فتحول الركاب لسوء الأحوال الجوية والنفسية من حالة الصلابة للحالة الغازية دون المرور بحالة السيولة فتبخرنا من الشبابيك والأبواب غازات سودانية ملونة وقلقة. الكمساري ساعة أن رأى نفسه سحابة دخان حاول أن ينزل كالقط، حذر أن يقع حتى لا تشتبك أعضاؤه الأساسية ضد الثانوية، وبما أنه خفيف قصير القامة، فقد وجد نفسه في الهواء لحظة أن وضع رجله في درج السلام، أصبح رأسه مكان رجليه، ووقع على الأرض. وهناك مرت عليه نسمة باردة فرجع ابن آدم كما كان قبل ركوبه البصل بيد أن جسمه روى عن نفسه فيما بعد فقال: أصبحت كالعنزة الجرباء أفردها القطيع. أصبح مثل السلحفاة التي تدخل رأسها في قدحها خوف الخطر. رأسه داخل صدره وصدره داخل بطنه ورجلاه كرجلي ضفدعة.
- شيء عجيب
قال عبدالمنعم
- أبونا آدم سلم وديعته لهابيل وهابيل سلمها لإدريس وإدريس سلمها لنوح. كل نبي يضيف من حسنه لحسن الجيل الذي يليه كأروع ما يكون الاحتمال و-الديالكتيك- حتى اكتمل الإنسان فكيف لحوت يونس هذا يعجننا كما عنّ له .لا يستحيل!
قال عبدالمنعم. ثم اشعل غازه الذي كأنه، نارا واشتعل في الهواء
وتلاشى.
أما أنا فنزلت وبي حذر أكبر من حذر غيري، كنت طويل القامة وحين لامست قدماي الأرض دخاناً أسود. حمدت الله وقلت ستمر نسمة وسأجمد على أحسن حال. وسأكون وسيماً. وما أن ذكرت أمر الوسامة هذا حتى قررت أن أجري بعض الاصلاحات الطفيفة لأكون وسيماً أكثر مما كنت. وتذكرت أن فكي الأسفل به طول. فهششت بعض الدخان الموجود مكانه ثم جعلت وجهي مستديراً وفتلت عضلاتي وعدلت هيئتي لا كما كانت ولكن كما كنت أتمنى من الحسن والبهاء. وقبعت في انتظار النسمة الباردة ولكنها لم تهب. قال المغني )كيف العمل؟( قلت أتدرج خطوة خطوة في اتجاه النسائم الباردة لئلا تختلط تباعيضي مرة أخرى.وما أن خطوات خطوة حتى وقعت في حفرة مجاري ومكثت هناك ردحاً من الزمن وعندما خرجت منها كنت رطباً بارداً.
عنقي به التواء وأنفي أفطس وعيناي توشكان أن تهربا من وجهي. جريت قبالة مرآة في مكان عام فما رأيت حيواناً أبشع مني.
قلت:
- هل هذه بلد؟ إذا ركب الواحد مواصلاتها كان عليه أن يصير خنزيراًً وقرداً إذا نزل؟
وفجأة أصبح الجمهور في الشارع يناديني باسم غريب على:
- )بخيت.. بخيت.. بخيت!
وناولني بعض الأطفال التسالي وهم يضحكون. وتحسست جسمي فلم أجد ذيلاً.
محمود المخمور كان يدخن ساعة تلبك وحزة أن صار دخانا اختلط دخان سجائره بدخان جسده وهبت سموم فلفحته إلى مخزن فتلقفه صاحب المخزن وعبأه في علب سجائر صنعت خصيصاً للسودان وللدخان.
خادم الله جار النبي جرت من هول ما رأت )دخاناية( سوداء ورست بمبخرة في مطعم قذر وهشت ذباب ذلك المطعم حتى طردته ولكن بعضه تساقط في أطباق الزبائن. انتقم الذباب من الدخان الذي أصبحته خادم الله فاستنشقه ومات عملاً بالقول المأثور )علي وعلى أعدائي يا رب( وحين هبت نسمة باردة لإرجاع خادم الله، بنت حواء التي كانت، لم تجد تلك النسمة منها سوى ثوبها الخرق.
نعمات ذات العينين الواسعتين خرجت دخاناية بيضاء وتمخطرت كبنت فرعون فاشتبك بها دخان سعد وتخللها فصرخت حتى فض بعض الدهان الواقف مجاوراً نزاعهما ولكن نعمات التعيسة مرت بقرب )كوشة( فتحرش بها دخان )الكوشة( وغازلها واشتبك بها والتف وامتزج بها فلوثها فحبلت وولدت دخانا تشمئز منه النفوس.
قال دخان الدرويش: )مدد( فهتف به هاتف أن أصعد، فصعد تحرسه العناية حتى فنى في حب المعبود.
خرج دخان السائق محتاراً. فوجد سحابة صيف فامتطاها بلا جواز سفر فعدت به وهاجر. حليمة المضمخة بالعطر الزائد عن الحد وجدت نفسها بجوار دلكة وصندلية وطلح في دكان صغير(. سارت خمس شابات جامعيات هن )عفاف وعلوية وعواطف وهدى وليلى( سرن كخمس )دخانايات( إحداهن صفراء والأخرى خضراء والثالثة سمراء والرابعة لون زينب والخامسة خاطفة لونين. قالت علوية:
- الحمد لله البقينا سودانيات، اسه كان خواجيات ما كنا عرفنا رأسنا من قعرنا.
سرن جميلات رشيقات أنيقات يتأففن من ملاصقة الهواء النقي للدخان الذي كنه فالتف بهن إعصار ذو غبار فسحب منهن )الكروت الرابحة( وحين هبت نسمة باردة بعد ذلك تحولن إلى سعالي.
قالت السعلاة للسعلاة:
- )يلاك نخلط(.
وذهبن ما عدا عفاف.
كان المقهى الجامعي يغض بجماعات متوحشة .تخفي تحت ثيابها هراوات غليظة وما أن وصلت السعالى حتى هوت الهراوات على رؤسهن مشفوعة بكافة التعاويذ من الشياطين والسفلة.
ذلك السفين النوحى تفرق أيدي سبأ. كل دخان من الركاب مضى لحتف أو نجاة، هجرة، أو عصا، علبة أو أحشاء ذبابة.
كان سعد يهوى العلا لذلك صعد في هامة مدخنة لمصنع بالمنطقة الصناعية ثم احتار لأن النسمة الباردة هناك لا تمر. وأصبح أسير المدخنة كلما هم بالنزول اندفعت من فوهة المدخنة جماعات من الدخان الساخن فاختلطت به وسخرت من حاله.
وقبع في علاه الوحيش إلى أن جاءه الفرج يوما حين انقطع التيار الكهربائي عن المصنع وتوقفت الماكينات ووقعت )دخاناية( سعد خلال فوهة المدخنة إلى أسفل سافلين وارتطمت بالبلاط ثم صار صاحبها مسخاً ثم تحول إلى ضفدعة تعيسة رآها في حينها عامل برم بما يكسب فصاح فيها بصوت مسيلمة:
- )يا ضفدعة بنت ضفدعين، علام تنقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين(كذب مسيلمة ولم يكذب العامل ؛ إذ سحلها ثم داس عليها بنعل غليظ فماتت مأسوفاً على الإنسان الكامن فيها.
أما قسم الشرطي فقد تدحرج من سلم البص وانزلق على الأسفلت وتدحرج زمناً ليس بالقصير وعندما هبت النسمة الباردة جمد الدخان الذي كأنه الرجل إلى قنبلة مسيلة للدموع. دخان في حالة كمون مسكون بالضغينة وسوء النية.
حط دخان عطا بمستشفى للأمراض العصبية. حوله المصابون بالذهان والانفصام والهستيريا. جاء أخوه وجاءت أمه من أقصى الصعيد. قالت أمه:
-نوديك للشيخ صايم ديمة
قال عطا:
- لا.
كان عطا ذاهلا.ً عنقه كعنق دجاجة مريضة ولسانه معقود.كانت أمه ترى حال ابنها فتمرض تدريجياً وكان الطبيب إذ يزور ابنها يرمقها بنظرة تنم عن شكه في حالتها كما شك الملاك عزرائيل حين تبدى بمجلس سليمان عليه السلام في شخص وجده بالمجلس ومطلوب قبض روحه في الصين إلى آخر القصة.
كان عطا يسمع ويرى بعد أن عاد ابن حواء كما كان. ولكن قلبه ما فتئ يحاول الخروج من القفص الصدري.
كان قلب عطا يطرق باب القفص الصدري عسى أن يخرج:

  Reply With Quote