View Single Post
Old 01-23-2011, 05:47 AM   #41
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

الغازات

د.بشرى الفاضل

في طرف عشوائي من أطراف تلك المدينة المختلطة المتنافرة العناصر ربض بص ذوكرش ضخم كأنها انتفخت خصيصاً لابتلاع البشر. ولعل البص خريج إحدى جامعات المصانع في أوروبا، جلبه للسودان جالب غير هياب من الضرائب، ولا غالب له في أمر المال السائب.
كان النهار يقول: )هنا إذاعة ضربة الشمس والسحائي، الساعة الآن الثانية عشرة(. يد السائق اليمني مرمية على عجلة القيادة، واليسرى ملقاة بأعلى هامته، ولعله قصد بترك اليسر فوق الهامة أن يصد رغبة الرأس في الانفجار.

لم أكن أول الوالجين في كرش حوت يونس ذاك، إذ كانت به قبلي خادم الله بسلتها، وما يفوح في تلك السلة من طعام، لا يخفى أين تود أن تذهببه. كان هناك رجل لا أعرفه، وامرأة لا أعرفها، وأمثال هؤلاء كثيرون ممن يجلسون من حولي على المقاعد ولا أعرفهم. قلت في سري )أُفْ فْ فْ(، ولكن الهواء خذلني، إذ نقلها، فسمعها الركاب فالتفتوا ناحيتي ملياً، حتى هربت منهم بالذاكرة.
قبل ذلك بثلاث ساعات فقط، كان هنالك صف، قربه توجد يد طويلة ممدودة؛ طويلة، بحيث يحدث خلل في نسب أعضاء صاحبة اليد. هل في مقدورك تصور رافعة معطوبة في رصيف ميناء؟ تلك حال اليد المدودة.

وكان هناك رجل أصلع يطل من الشباك طوال الوقت. هو صامت، لكن الجميع يخاطبونه باسمه. وكان هناك عطا. رأسه آلة حاسبة، وفي جبينه عرق، وفمه جاف، كان عطا يقف في منتصف ذلك الصف العجيب ويتمتم ) 15 للبيت ، 4 للغسال ، 20 للكنتين ، 5 لخالتي نفيسة. ثم تذكر عمته بنت المنى وجدته التاية. فشطبت الآلة ما دونته وأعادت الكرة من جديد ) 13 للبيت، 3 للغسال..( وظنت الآلة الحاسبة أنها قسمت المبلغ كقسمة الفقراء للنبقة.
ولكنها تذكرت الاشتراكات. وصديقها عبدالمنعم مطر. )آه يا ملعون ما تعرس إلا في الشهر دا؟(. كان عطا قليل المسرة، شديد الحيرة والارتباك. عبدالمنعم صديقه وعفاف خطيبة مطر صديقته أيضاً، لذلك أفسح لهما مساحة في سطور الآلة الحاسبة وهو يدندن: سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام وبينما عطا مشغول بمحاورة آلته الحاسبة؛ دخل رجل سريع الحركات ذو شارب وعينين قلقتين، وتخطى عبدالقادر المتسرع أبناء آدم الموجودين بالصف مخفياً سوء ملامح وجهه بابتسامة ناشفة مشفوعة بخجل باهت غير مفيد في مثل هذه الحالات. ووقف أمام عطا في الصف الممدود الحبل.
قالت الآلة الحاسبة: )العمل القبيح لا يلد إلا الابتسامات المبهمة( ثم إن الآلة الحاسبة دنت من الشباك وانشغلت بأمر القبض والتوقيع عليه ومراجعة القبض والتوقيع عليه وما إليه.
كانت هناك يد مدودة مثل رافعة . وكانت اليد الممدودة مجزومة، وفي نهايتها صحن مبسوط، ولليد جسد مرفوع، ورأس منصوبة، وللجسد ثوب مجرور، وكانت تملك تلك الأعضاء والأمتعة جميعاً، امرأة معدمة ؛ جاءت زاحفة بريّاً من منطقةٍ شاحبةٍ نائية.

وكانت تلك المرأة ترفع عقيرتها بصياح سمته البؤس والفاقة:
- الله كريم. الله كريم. ورحيم. لله يا ممنين(. خرج عطا من الصف بفرح مؤقت، ورمى للرافعة ما أفلت من الرأس الصلعاء من )فكه( وانهمر ثناء الرافعة ليعادل عطاء عطا السخي:
- الله يجيب البركة.. ما شاءالله!
ثم:
- لله يا )ممنين( ويدور الرحى من جديد. جرى عطا نحو أماكن كثيرة لا يريدها في مثل هذا اليوم. وانتهى به المطاف إلى ذلك البص اللعين. فركب ثم انفلت منه ذلك التأفف )أفْ فْ فْ(. ولعله انفلت من عطا أو مني لست أذكر.
انشغلنا أنا وعطا برجل ذي جلباب نظيف وظللنا نراقبه، عطا يراقب حاله وأنا أراقب مقاله، حتى ضاق الرجل بنا فترك مقعده غير آسف وتنحنح جاره على الفور، كأني به ينبه بقية الركاب ثم انفجر:
- نشالين الزمن دا. نضاف زي التجار. بقوا نص النهار عينك ..عينك، أسه الزول دا النزلوا شنو؟
صمت الناس جميعاً لثوان كأنهم اتفقوا على دقيقة حداد. ثم هبط الحر، فصعدت السموم، وما انفك المزيد من الركاب يتوافدون خمسة، ثمانية تسعون...
( يا ابن العم ما تدوّر خليتنا زي الساردين (. ) دوّر آللخُو) قال سعد في سره(اسكت يا اقليمي). اللخو قال! (.وكان السائق صامتاً لا يرد. أصبح تمثالاً من كثرة ما ألقى في وجهه منقول غليظ.

امتلأ البص حتى بلعومه بالنتن من الروائح، وبالأطعمة والجوالات والبصاق رغم أنف التحذيرات المكتوبة )ممنوع البصق( بالعريض، قرأها شبه أمي وسط ذلك الجمع )ممنوع البصل(؛ وقرأها أمي تام الأمية )ممنوع البص( فلم يختلس النظر إلى جارته. ثم عدل عن فهمه لها:
- آه يعني البص دا ممنوع؟
وخرج لتوّه كأنه نسي الحرف الأخير بمنزلهم.
- يا شاب ما تحرك!.
ولكن السائق لم يتحرك إذ تأخر لدرويش يحمل إبريقاً وقلباً طيباً، ورهبة، فركب، ثم إن الخليل بن أحمد خرج غاضباً من بيت شعر مكسور ودخل في ذلك البص اللعين.
كان الكمساري مرفوعاً من أرضية البص إلى أعلى بغير رافعة سوى البطون والأكتاف، رجلاه في الهواء ونظره زائغ بحيث يبدو كخروف مذبوح )كيري( بدليل وجود الملابس عند الكمساري والجلد عند الخروف الكيري.
وكان ذلك الكمساري التعيس لا يتحرك، ولا يراه الركاب الذين لا يعرفون أمكنة جيوبهم. أما نقودهم فحدث عنها ولا حرج. كان الكمساري محجوباًبالزحام. ولكنه معروف مع ذلك للجميع، بواسطة التكشيرة المقدرة على فكه منع من ظهورها اشتغال الركاب بحركة المعاتلة. صاح الخليل بن أحمد:
- حافلات شاحنات سيئات
مركبات قاتلات فاعلات.
وكان حال الحافلة أشبه بحال أعماق المحيط في التداخل، والتماوج. كل مشغول بأمر نفسه، مهتم بها كأن العالم ينتهي لدى طرف أنفه. وكان الدرويش بين كل دقيقة وأخرى يباغت الركاب:
- )حَيْْ(
فيرد رجل مخمور من عامة الركاب:
- )قيوم(
وينفجر بقية الركاب بضحك سوداني عامر. وفي الممشى حيث تبلغ الكثافة الركابية ذروتها ) 20 راكباً في المتر المربع(. كان سعد يلاصق نعمات. بكت نعمات في سرها ولكن سعد سدر في غيه. حاول أن يقول لها شيئاً بالصوت الجهير ولكنه خاف. فتولى الدون جوان الذي في داخله الأمر. إذ قال:
- يا صبية مسك مس أرنب والريح في البص ريح زرنب. التصقي التصقي.
وكان بالمقابل يلتصق هو لا هي.
وحين أدار السائق القدير، وليس أمامه مفر من أن يكون غير ذلك، حين أدار المحرك وتمخطرت العربة بين أفواه التماسيح، والأسنان الجائعة للمطاط، أصبح الأمر كله كقفص لدجاج جائع في أطراف المدينة، يرعب أهله بالصياح ويرعبونه بالجوع. يطالبونه بالبيض فلا يبيض، ويطالبهم بالطعام فلا يطعمونه.
تجاوزت سفينة نوح هذه بنا محطة، وحطت بأخرى، فتلاطمت موجات بشرية جديدة لداخله، وخرجت منه مويجات ضعيفات التيار. وكان من ضمن القادمين رجل يترنح. قام سافر تاه.. قام تقدم وقع.. عطش عطش شرب..
وجد الشارع سار.. وجد البص ووجد الناس فدخل. وكان سكره معلن عنه بالحنجرة التي ترغى وبالمونولوج الداخلي المتقطع:
- أسع هق؛ الناس دي هق؛ متزاحمة فوق.. فوق.. كم؟
وما أن استقر محمود ، وهذا هو اسمه، داخل البص حتى بصق بصقة إفريقية وذلك بأن كور اللعب في فمه كالكرة الصغيرة. ثم قذف به دفعة واحدة خارج فمه: )طج(. فبلل ثوب خادم الله الذي يستر حالها على علاته، وحين ماءت خادم الله، نبح فيها فسكتت. فتصدى له مولانا ذو الصوت الجهوري والكلمات المحكرة :

– يا ابني اتق الله. أولاً ما فعلته قذارة والنظافة من الإيمان. ثانياً: هذه الولية حرمة، وثالثة الأثافي ذلك البصاق، والعياذ بالله ، خمر.
وتوكلت خادم الله على سيدها، وناوشت محمودا متكئة على تشجيع الناس لها. لكن محمودا تدحرج نحوها فجن جنونها. كان محمود هائجاً كثور اسباني وانبثق من فمه كلام كاللعاب:

- قلت يا وليه هق أنا مليان هق مريسة وعفن؟ قف. هو شبهك إنت قف. بلا المريسة والعفن قف. شن.. قف. شنو؟(.
فردت خادم الله:
- قلت شنو يا راجل يا عديم الحيا؟ والله يا هُوْ(.
وكان هذا غاية ما تعرفه خادم الله من الوقاحة. أما محمود فقد وقع من السماء سبع مرات، ولكنها ربما كانت وقعات فارغات مثقوبات، وذلك أصبح واضحاً للعيان بعد وقوف جميع الركاب ضده منحازين لخادم الله، ولم تدم سيطرة خادم الله على خيالات الركاب طويلاً، إذ جذبت الانتباه جلبة، أبطالها أطفال، أشجعهم يسير في المقدمة، وأخوفهم يسير في المؤخرة. والخائفون أصواتهم عالية. وهم جميعاً يمشون مشية العساكر. أرجلهم تدق الأرض، مخيلاتهم جامحة وشديدة الخصوبة. والنغم موحد. يزفون رجلاً كالأرجواز. عكازته عتيقة، ووجهه كالسعن المتيبس. كانوا يهتفون:
- قفه.. قفه.. قفه.. قفه...
صاح الخليل بن أحمد داخل البص:
- فعلن.. فعلن
فلطمه أحدهم حتى طار عجز البيت ، فعجز عن مواصلة الكلام ونزل. كانت الزفة قد بلغت منتهاها عند بلعوم حوت يونس المنكوب، كان قفه فيما بدا للناس منكوباً . وله جسد يهتز بلا مثير للاهتزاز، مثل عنق دجاجةوله رجلان نحيفتان ملتويتان وفم ذو تمباك. ومن شدة برمه سب أمهات الأطفال نهاراً جهاراً حتى ضحك الركاب ولكن أكثر الأطفال لا يعلمون.
- قفه.. قفه.. قفه.. قفه.
كل مجموعة تناوب الأخرى وقفة وراءهم بكل وسائل الشجار السوداني بدءاً بالتراب وانتهاءً بالسباب.
- ياشف ف.. ع ياوولاد الح ح ح ح ح ح ..
الله ومع ذلك في الأمر تأتأة يا سيد قفه.كركر الركاب من جديد بضحك سوداني عامر وقال له بعض الركاب:
- )أركب خلاص، أولاد حرام. وارتاح قفه للمساعدة القيمة. وأمسك
بتلابيب الكلمة جيداً حتى لا تتبعثر منه أصواتها في فمه التمباكي، وقذف بها في وجه الأطفال.
ثم إن السائق انتهرهم بالصوت الغليظ.. فتفرقوا مصدرين صيحات الأطفال المألوفة لدى انتهاء اللعب، كأنهم ينبهون أمهاتهم بتوجههم نحوهن.
ودخل قفه في زمرة الركاب بأن حشر نفسه مباشرة في أحاديث الناس، التي لا يفهم منها سوى كلمة لا تضحك فيضحك عندها، وأخرى لا تهز فيهتز لها جسده مابين الصفا والمروة. وكان بين الفينة والأخرى يقاطع حديث الركاب بكلمة جمعها فأفلتت منه في ذم الأطفال البائدين.
- شفع ما مرب أب أب أب.
سئم الناس قفه فنسوه. سئم الركاب الخليل فأنزلوه. وكان المخمور هامشياً، وكان الدرويش مستمراً على وتيرة واحدة إذ يقول )الحي( فصار الركاب ينتظرونها بميكانيكية كانتظارك نقطة ماء تقع من صنبور معطوب.
وهكذا تشرنق الركاب، كل يبحث عن نفسه التي بين جنبيه، قال عطا:

- كيف أكون أنا أنا؟ ثم أكون أنا أحزان قلبي وأصفيائي وأحبائي؟ وانشغل عن سؤاله الغريب بمراقبة رجل صفوي يفكر. فكر الرجل الصفوي. ثم فكر. وأخيراً هداه تفكيره إلى أن الشمس هي السبب في كل ما يحصل في هذه المركب وفي البلد عموماً وفي العالم.
- أيتها الشمس اللعينة - قال الرجل الصفوي- لماذا هذه الحمم وهذه الغلظة؟ أما تدفئين بلاد الإنجليز التي هاجر بعض أهلها خوف البرد الذي قتل
أبا ذر وسكنوا بلادنا ردحاً فعمروها؟
ولكن الشمس كانت بعيدة جداً. خارج مرمى تساؤلات الرجل الصفوي جميعها، ترى ولا ترى تسمع ولا تسمع. هل تهب الحياة؟ نعم. هل تدمرها؟
ربما فقط إذا قال النهار: )هنا الصيف؛ إذاعة عنبر جودة وقلة الهواء الصالح( فترسل الشمس إذ ذاك شعاعاً أحمر وأخراً بنفسجياً وثالثاً تحت الأول ورابعاً فوق الثاني. والمسبحة البشرية داخل حوت يونس تدور وتهمهم )يا لطيف، يا لطيف( ثم يكون السهو: )رمضان المدارس، المواصلات. يا لطيف. الرغيف، الفحم، البصل، يا لطيف( ولما كنت طالباً بارد الحشا فقد كان الأمر الدائرة به هذه المسبحة يعنيني على تجريداته فسحب. ولذلك كانت المسبحة تدور وأنا أضحك على السذاجة حتى غفوت وانشغلت بحالي في غفوتي. رأيت أن الأولية جاءتني بدجاجها الذي يلقط الحب، وبديكها الذي صاح قبل طلوع الفجر، رأيت الكتب الهاربة وبعضها منسي. وكان أكبر ما رأيت هو انتظاري في ركن من أركان المعمورة لزائر لا يجيء. انتظرت السودان وفي يدي زهور برية قرب محطة مترو. كانت المنطقة غاصة بمواطنين ينتظرون فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.وتبدت لي في الأفق كتلة فرح سوداء، ما أن اقتربت حتى تبدل لونها إلى أزرق فاتح يخلب الأبصار، قلت هذا هو! يالحسن عينيه! وخيل لي أني سمعت وقع خطواته ففرحت فرحاً جماً وما أن رفعت يدي في بروفة لإهداء الزهر حتى دهمتني دولة ثرية فجريت منها كما يجري

  Reply With Quote