View Single Post
Old 11-13-2010, 07:52 AM   #4
 
عوض خضر

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 4
المشاركات : 2,897
بمعدل : 0.56



عوض خضر is offline
Default

هواتف الغياب

يحي فضل الله

التاسعة صباحاً
السبت 3 يناير1998م
الموافق الخامس من رمضان 1418هـ
يرن جرس الهاتف مولولاً – ترنك - تسبقني (هادية) الى حيث تلك الولولة ، الطقس كان بارداً وبه (غتاتة).. تناولني (هادية) سماعة التلفون
-(ازيك يا يحيى)
-(اهلاً مرحباً – منو معاي؟)..
-(استيفن معاك)
انه (استيفن اوفيرا اوشلا) احد المبدعين الفاعلين في مسرح جماعة (كواتو) الاهلية.. وتهللت مني التساؤلات..
-(كيف السماني – ديرك – قاسم – قرني – الرشيد -)..
يقاطعني (استيفن) متعمدا إيقاف اندلاقي المنفلت جداً من فاتورة المكالمة التلفونية في سودان اللا تواصل..
-(اسمع يا مونج في خبر ما كويس)..
-(ياخي ما معقول)..
-(الاستاذ احمد الطيب زين العابدين مات)..
-(متين؟)..
-(الصباح – البركة فيكم يا مونج ، هاك السماني لوال)

هكذا لم يتحمل العام 1998م حياة الاستاذ احمد الطيب زين العابدين، ذهب الى ذلك البعيد وترك وراءه همومه وتأملاته في الحراك الثقافي والفكري في السودان، كان دائماً يلوح امام الهجمات الشرسة على تجليات الحركة الابداعية بملامح سودانية يحق لها ان تتباهى بتنوعها وتعدد منابعها العرقية والدينية.. مشهراً هذه الملامح (السودانوية) في تجلياتها الابداعية الجمالية ، فهاهي البوابة في مملكة (كوش) و(علوة) تحرض تأملاته التي غاصت في معنى (الطوطم) الذي يتخذ من الاشارات والرموز فكرته ، انها (البوابة المرمزة) كما يسميها استاذنا احمد الطيب زين العابدين. كان (السماني لوال) يتحدث لي عبر التلفون في ذلك الصباح الشتوي البارد الحزين عن علاقة الاستاذ احمد الطيب زين العابدين بكورس الدراسات العليا بكلية الفنون وعن رحلة له معهم وهو الفنان المسرحي (ديرك اويا الفرد) الى لندن وكان صوت (السماني لوال) يدخل عميقاً في نسيج البكاء.. ها هو احمد الطيب زين العابدين يدخل من البوابة المرمزة الى العمارة الرامزة يبحث بكل تحريض للذاكرة عن المعاني التي تختفي وراء الرسومات والشخبطات الدقيقة على الجدران ، حتى المناظر الطبيعية التي تعلق على لزوجة نهارات المطاعم تأملات احمد الطيب تتحرك نحوها، الاشارات ذات الاصداء البعيدة من حيث انتماءها لفكرة الانسان عن الوجود.. ذلك الوجود المتلاشي في العدم ، المخربش بتجليات كل إشتهاء الانسانية للخلود ، تماثيل في كنيسة (مروي) تقف بعناد في وجه الجمود المتشبث بمعاول أحادية ضيقة مثل مشروع حضاري، مشروع الاحياء الثقافي، إعادة صياغة الانسان السوداني، مؤتمر الذكر والذاكرين، يكفي ان يشير احمد الطيب زين العابدين بيد مرتعشة نحو تلك التماثيل في كلية الفنون التي اعتدى عليها الى درجة التحطيم موسوس ومهووس، تكفي تلك الاشارة كي نعرف تماما ان احمد الطيب زين العابدين شعلة تنويرية في سراديب ذلك الظلام المتحالف مع اخطبوط القبح.

أدير ارقام التلفون بعد ان انتهت مكالمة (السماني لوال) واتصل بالاخ الصديق الفنان المتعدد (ايمن حسين) وافجعه ذلك الصباح بالخبر في شقته بالعجوزة ول(ايمن حسين) مع الاستاذ احمد زين العابدين علائق اثمرت بابه الاسبوعي في الملف الثقافي لجريدة السودان الحديث (منظور سوادنوي) الذي كان يجاور (التداعيات) و (امشاج) احمد عبد العال و (مواسم الهجرة للجنوب) للاستاذ الدكتور جعفر ميرغني وقد كان (ايمن حسين) مشرفاً على هذا الملف الثقافي المتميز آنذاك ولا زلت اذكر نظرته العميقة وهو يتأمل اقتراحا لي انا و (ايمن حسين) وكان كلاً منا قد قدم له هذا الاقتراح منفرداً دونما اتفاق.. الاقتراح ان يدخل الى عالم الكتابة السردية من خلال (منظور سودانوي), احمد الطيب زين العابدين له قدر من التلقائية الممتعة التي تحول اصعب النظريات واعقدها الى (ونسة) حميمة ، كنت لا زلت الهث حول (الوناس) السوداني حتى عثرت على هذا الكنز، تلقائياً جدا كان احمد الطيب في تفعيله للتأملات، من ابسط الحكايات يستطيع ان يلتمس عميق التساؤلات ، حيوية الذاكرة المعقدة الى درجة اختزانها للتفاصيل ، ان ذائقة التشكيلي هي التي تجذر تأملات احمد الطيب زين العابدين ، الا يكفي ان ينشغل ذهنه باحثاً عن الخربشات النوبية ذات التماس الفرعوني؟ في مكتب الاستاذ صالح الامين – مصمم الديكور بالمسرح القومي - التقى مرة بالاستاذ احمد الطيب زين العابدين واحكى له عن اولئك (الشماسة) الذين يبدأون صباحهم بمنافسة في الرسم، عوالم السينما على جدار به مستطيل بارز بعض الشئ لكنه يغري بالرسم ، كان ذلك في زقاق ضيق في امدرمان غرب المحكمة الشرعية اسمه زقاق (نورين)
اذكر الآن كيف برقت منه العيون ، تلك العيون بالغة الدقة والتمحيص وبحماس قال لي: (وديني للجماعة ديل يا يحيى )
وقد كان ، ها هي العربة - بوكس كاشف يتبع لامانة المسرح - كان ذلك زمن الامانات الزائفة ، تقف العربة في اقرب مدخل الى اولئك الرسامين الخارجين عن القطيع ، اقوده وبتمهل شديد الى حيث ذلك المرسم الاستثنائي جدا ، كان احمد الطيب زين العابدين وقتها خارجاً من نوبة اورثته شللا في الجانب الايسر ولكنه كان دائماً مع الفعل و كانت تشاركني في مهمتي تلك عصا ترتب خطواته ، وصلنا الى المرسم ، لحسن الحظ كانت هنالك مكتبة قريبة من الدكان استعرت منها كرسي اجلسته عليه ، كان (الشماسي) الذي يمسك بكوم من الطباشير الملون غالباً ما جمعها من حوش مدرسة ، كان يقف متأملاً ما رسمه بوقفة (كابوي) سيضم شفتيه مصفرا ويقترب من اللوحة المرسومة ويبتعد عنها بينما باقي فريق (الشماسة) يتابع باهتمام ويرى (جاك شان) ، (ابوشلخه)، (ابو طويلة ) ، (أب سفة) و(ديجانقو) ببطانيته والرسام يقترب ويبتعد من شخصيات رسوماته ، ها هو المدفع موجه الى صدر البطل وتلك العيون البريئة التي غير ملامحها التشرد والانفلات متحفزة ،يقترب الرسام، يرسم خطوطاً حمراء ويضيف اليها اخري صفراء ليصفق فريق (الشماسة) ويتصايح مع كل خط يضيفه ذلك الرسام وقد كانت الخيوط تلك تخرج من فوهة المدفع ،

هكذا في زقاق (نورين) بأم درمان كانت هناك ذائقة تشكيلية بدأت تتحسس طريقها ، كان احمد الطيب صامتاً وتشع منه العيون وفي رجوعنا الى العربة وانا اقوده سألني قائلا: (تعرف جورجي امادو؟) وقفزت مباشرة الى ذهني شخصية الطفل الرسام بين مجموعة متشردي (جورجي امادو) في شوارع (باهيا كل القديسين) في البرازيل وقد التقطه استاذ للرسم ليصبح رساماً عالمياً ، اجبته فرحاً بهذه العلائق الشفيفة: (تقصد رواية فرسان الرمال) ، هكذا كان احمد الطيب زين العابدين يتمتع بعقلية تدمن المقاربات بين كل أشكال الفنون، التشكيل، الموسيقى ، الآداب ، شعر ، قصة ، المسرح، دراما الإذاعة، برامج اذاعية متخصصة. في يوم السبت الثالث من يناير للعام 1998م، في ذلك الصباح الشتوي البارد الحزين، رنت اجراس تلفونات كثيرة في شقتي بمدينة نصر، في شارع الصداقة وحملت اسلاك التلفونات إحتجاجها كون الاستاذ احمد الطيب زين العابدين عبر هذا العالم ولم يستطيع الانتظار حتى يعبر معنا الى الألفية الثالثة.

  Reply With Quote