View Single Post
Old 03-15-2010, 03:32 AM   #18
 
ودالشايب

تاريخ التسجيل: Feb 2010
رقم العضوية : 19
المشاركات : 178
بمعدل : 0.03



ودالشايب is offline
Default

[size="5"]هذا المقال من جريدة الايام للاستاذ عبدالقادرمحمداحمد المحامي وفيه يثرد الكاتب ماثر ونزاهة الشيخ الحسين الزهراء قاضي المهديه
[/



العدد رقم: الاربعاء 9170 2008-07-29

الاحتفال بالعيد الذهبي لاستقلال القضاء بالسودان ما له وما عليه (3)
نبدأ مقالنا الثالث بالتعليق على ورقة مولانا دفع الله الحاج يوسف الذي تولى رئاسة القضاء خلال فترة عصيبة تزامنت مع صدور قوانين سبتمبر التي أثار تطبيقها الفجائي ربكة وسط كافة العاملين في حقل العدالة آنذاك . وإذا كان القضاة قد برعوا في استيعابها وتطبيقها خلال فترة وجيزة فالفضل يعود لمولانا دفع الله الذي عكف ومن خلال المنشورات القضائية على شرح وتوضيح المسائل الفقهية واللغوية والفنية المتعلقة بحسن تطبيق تلك القوانين وترسيخ مفهوم الشريعة في التيسير على الناس وعدم أخذهم بالشبهات . وكان كل ذلك يسير ضد رغبة النميري ورجاله الذين فشلوا في إقناع رئيس القضاء بأن تطبيق الشريعة يعني أن تسيل دماء القطع والصلب في الشوارع . كما رفض وبشدة تدخلهم في شؤون القضاء وتمسك باستقلاله فاضطر النميري إلى إنشاء محاكم الطوارئ سيئة الذكر كقضاء مواز يتبع للقصر مباشرة .
من هنا ومهما كانت الأهداف التي تقف وراء الاحتفال بالعيد الذهبي للقضاء فإن إقامة ندوة تحت عنوان استقلال القضاء ويكون أول المتحدثين فيها مولانا دفع الله جعلتني اعتقد بأن هذه الندوة سيكون لها ما بعدها وفيها ستضاء شمعة في ليل هذا الوطن الظامئ لضوء الحقيقة . ولعل أن المتشبثين بالسلطة وهو يسترق السمع يرى ضوء الشمعة فيتجه نحوها وتكون بداية الخلاص ، لا للسلطة القضائية فحسب ، وإنما لكل هذا الوطن الذي طال ليله .
إذا كان الخيال قد شطح بعيداً ، فأن أحلام يقظة مشروعة وإذا كانت النار من مستصغر الشرر فلم لا يكون خلاص السودان من مستصغر كلمة تخرج من دار القضاة من فم فيه ماء فقد وصلت بلادنا لحال يجب أن يكون ماء الفم دافعاً للكلام لا مانعاً عنه .
لكن هيهات فأحلامنا الجميلة دائماً قصيرة فقد حدثنا مولانا دفع الله حديثاً مطولاً عن (المثال النظري) وعندما أتى (للواقع المعاش) اكتفي بإعلان التفاؤل بأن ما جاء في خطاب الرئيس في حفل الافتتاح من شأنه التقريب بين الواقع والمثال !! ولم يشأ الحديث عن الواقع الكائن والواقع الذي كان كي تتجسد الصورة وتتضح المسافة . ولم يشأ أن يحدثنا عن مؤشرات التفاؤل في خطاب الرئيس رغم قناعتنا التامة بأن لا جديد فيه يدعو للتفاؤل فالجميع يعلم ان اقوال السلطة دائما عكس افعالها . وحتى لو قلنا أن التفاؤل يجيء من باب ضرورة طي صفحات الماضي وإحسان الظن ، إلا أن صفحات الماضي متجددة وإحسان الظن له مقومات .
لقد أساءت السلطة للقضاء وحطت من قدره بفصل القضاة لدوافع سياسية واتهامهم ظلماً بالفساد ، كما أساءت للقضاء عندما عطلت بالمحاكم الاستثنائية وبإنشاء قضاء موازٍ من داخل السلطة القضائية تحت شعار ما عرف بالمحاكم الخاصة التي يختار لها قضاة بعينهم يتمتعون بامتيازات غير متاحة لبقية زملائهم . كما أساءت الإنقاذ للقضاء بتعيين بعض القضاة بدوافع غير سليمة وجرهم لمعسكرات الدفاع الشعبي ليؤدوا قسم الولاء للحزب الحاكم . كما أساءت الإنقاذ للقضاء بتجاهل تنفيذ أحكامه !!
صحيح ان حفل الافتتاح اعلن فيه عن الثقة في القضاء والحرص على استقلاله ولكن الثقة والحرص اسبابهما معلومة فالقضائية محروسة من الداخل بكوادر حزب المؤتمر الوطني الذين لا يغادرونها حتى لاستراحة محارب !!
من أين يأتي التفاؤل والحكومة نفسها توافق على فصل المحكمة الدستورية عن القضاء القومي بسبب أن ذلك القضاء قد لحق به (تسييس كبير) على حد تعبير الدكتور منصور خالد . !!
لقد بشرتنا اتفاقية السلام بقضاء مستقل وبعيداً عن التسييس ، إذا بالأمور كلها تسير في اتجاه تكريس الواقع المرير ليظل القضاء كما أرادت له الإنقاذ ، وليظل يدار بواسطة وعضوية حزب المؤتمر الوطني بل ولينضم إليهم أعضاء آخرون مهما كانت مبررات وجودهم في المفوضية القضائية ، فإن وجه النشاز والغرابة يرجع لكونهم أعضاء في المؤتمر الوطني ليصبح المؤتمر الوطني صاحب الحق ، قانوناً وجهاراً نهاراً ، في إدارة القضاء بما في ذلك تعيين القضاة وعزلهم وترقياتهم ونقلهم . وبعد كل ذلك يحدثنا مولانا دفع الله عن التفاؤل وإن ما جاء في خطاب الرئيس من شأنه التقريب بين الواقع والمثال !!
ثم أن المثال ليس في مجرد النصوص الدستورية التي تقنن لاستقلال القضاء فالممارسة العملية كشفت أن وجود تلك النصوص لم يضمن للقضاء استقلاله وغيابها لم يمنع عنه استقلاله . ويبقى المثال الحقيقي في استلهام الدروس والعبر والوقوف على سيرة السلف الصالح من القضاة وجهادهم في سبيل استقلال القضاء وتطبيق سيادة حكم القانون .
ونجد في تاريخنا الإسلامي نماذج مشرقة تجعلنا نتوارى خجلاً مما نحن عليه اليوم . يأتي على قمة تلك النماذج مولانا القاضي الفاروق رضي الله عنه الذي شكا إليه أحد الذميين بأن ابن حاكم مصر عمرو بن العاص قد اعتدى عليه بالضرب فماذا كان حكمه ؟ قال للذمي : (خذ فأضرب ابن الأكرمين) وكانت كلمته الشهيرة التي نقلها للعالمين ولعمرو بن العاص وابنه : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) ثم صاغ كتابه لقضاته والذي حوى أهم آداب القضاء من استقلال ونزاهة ورزانة وعدل وروية فانتقلت مبادؤه في العدل والقضاء للعالم عبر البحار ليصوغها بعد ذلك مونتسكيو أساساً لاول محاولة لإقامة العدل على ارض أوروبا .
ولهذا كان طبيعياً أن يكون تلاميذ مولانا الفاروق من أمثال القضاة شريح والماوردي وأبو يوسف الذي كان يتعمد إظهار هيبة القضاء أمام خليفة المسلمين الرشيد فكان يذهب لدار الخلافة راكباً بغلته فيرفع له ستار لخلافه وهو راكب فيقوم الخليفة لتحيته تقديراً لمكانة القضاء . ثم لا يحول هذا التكريم بينه وبين أن يجادل الخليفة ويعلن وبكل شجاعة رفضه لشهادته بحجة أن الخليفة يتكبر على الناس ولا يحضر صلاة الجمعة مع المسلمين بما يتنافى والعدالة التي هي شرط لقبول الشهادة !!
أما القاضي شريح فقد رفض شهادة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وحكم بالدرع لصالح رجل يهودي لأنه لم يكن للإمام علي بن أبي طالب شهوداً على درعه غير ابنيه فما كان من اليهودي إلا أن أعاد الدرع للإمام علي ونطق بالشهادتين تأثراً بعدل شريح واحترام الإمام علي لاستقلال القضاء . فسر علي بذلك ودفع إليه بالدرع تبرعاً وذهب مع علي يجاهد حتى استشهد .
وروى عن القاضي سوار بن عبد الله أن الخليفة المنصور كتب إليه بخصوص نزاع حول قطعة أرض بين فلان القائد وفلان التاجر وطلب منه أن يحكم لصالح القائد فكتب إليه القاضي أن البينة قامت لصالح التاجر . فكتب إليه المنصور : والله لتدفعها إلى القائد فرد عليه القاضي : والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها إلا بالحق . لكن الخليفة المنصور لم يصدر قراراً بإحاله قاضيه للصالح العام ، كما يفعل خلفاءنا اليوم بل شعور بالراحة والزهو وقال : ملأتها عدلاً وصار قضاتي تردني للحق .
إن القياس على أولئك الرجال يجعل حديثنا مجرد تنظير ولهذا نكتفي باستنشاق عبير سيرتهم العطرة وننتقل لتاريخنا السوداني ونسأل أين نحن من قضاة مملكة الفونج الشيخ عبد الله القرشي والشيخ عبد الرحمن النويري والفقيه بقدوش وقاضي العدالة دشين الذي كان يصر على تطبيق حكم الشريعة على الجميع مهما علت مكانتهم حكاماً كانوا أو رجال دين وقد لاقى في ذلك عنتاً شديداً ما زاده إلا يقيناً فسمي بقاضي العدالة وقد قال فيه الشيخ فرح ود تكتوك :
أين دشين قاضي العدالة ؟ ** الما بميل بالضلالة
نسله نعم السلالة ** الأوقدوا نار الرسالة
أين نحن اليوم من قاضي المهدية الشيخ الحسين الزهراء ؟ فقد حدث وأن اغتصب بعض الأنصار أموالاً لجماعة في دنقلا فرفعوا دعوى أمام قاضي دنقلا (يونس ود الدكيم) ثم استأنفوا حكمه فحولت القضية لأم درمان للنظر بواسطة محكمة الإسلام برئاسة القاضي الشيخ الحسين أبو زهرا فأصدر الخليفة أوامره للقضاة بألا يعاد النظر في القضايا التي فصل فيها يونس ودكيم وأمراؤه ولكن الحسين كان قاضياً عادلاً وشجاعاً فقال : (المال يأكله الآخرون ونحن نتحمل المسؤولية على أكتافنا ونقابل بها الله سبحانه وتعالى !! أنا رجل أسير حسب كتاب الله والسنة دون التحول عن الحق أو خشية لومة لائم حيال شريعة الله) . فغضب الخليفة ودفع الحسين حياته مهراً للعدالة فكان أول شهيد في سبيل استقلال القضاء .
والأهم من ذلك كله أين نحن اليوم من قضاء الحكم الاستعماري الذي نحتفل باستقلالنا عنه ؟ إن تاريخنا القضائي الذي نفتخر ونفاخر به ونحتفل بعيده الذهبي هو الابن الشرعي للقضاء الذي كان قائماً خلال الحكم الاستعماري الثنائي وتولاه في المجال المدني قضاة من بريطانيا ومستعمراتها وفي المجال الشرعي تولاه قضاة علماء من مصر .
ومن الضروري ان نذكر هنا ان القضاة الانجليز وزملاءهم من المستعمرات الاخرى لم يغادروا البلاد مع قوات الاستعمار وموظفي الخدمة المدنية الاجانب فالسودنة كانت قاصرة على الخدمة المدنية من ناحية ومن ناحية اخرى ابدى القضاة السودانيون رغبتهم في الاستبقاء عليهم للاستفادة من خبراتهم ولعدم ارتباطهم بالاستعمار ومن بعد غادر كل منهم بمفرده وحسب ظروفه . فمثلا المستر مافروغورداتو الذي كان يعمل بمصلحة القضاء كمحامي عمومي منذ 1946م ظل مسئولا عن صياغة القوانين بوزارة العدل خلال الفترة من 1958م حتى 1961م.
لقد كان القضاة خلال فترة الحكم الاستعماري الثناي يعملون وفقا للقانون دون ترهيب او ترغيب فكان أهم ما أرساه ذلك القضاة هو اطمئنان الناس إلى عدالته ولعل فينا من تسامع القول الذي كان يردده مفتش المركز الإنجليزي في دنقلا : (إذا العمدة ظلمك استأنف لرئيس الفرع وإذا ظلمك استأنف لشيخ الزبير وإذا الزبير ظلمك الله ظلمك) بمعنى أنه لن يتدخل في قضاء الزبير حمد الملك وسار هذا القول مثلاً يردده الناس في كل أنحاء السودان .
نعم أن المونتسيكية الدستورية ليست غاية في ذاتها وبالتالي ليست هي المثال الذي يجب أن نقيس عليه واقعنا اليوم ، فالمثال رجال تبوأوا كرسي القضاء في السودان في غياب المونتسيكيه وفي وجودها ، وصنعوا مواقف حفظوا بها مكانة وكرامة وهيبة واستقلال القضاء فحققوا العدالة وسنواصل بإذن الله العودة الي سيرتهم العطرة لنرى أين كانوا وأين أصبحنا .
* الكاتب قاضي سابق ويعمل بالمحاماة حالياً

























::: جميع الحقوق © 2008 محفوظة لصحيفة الايام اليومية :::

  Reply With Quote