حديث المقبره
هالقصيده لابو القاسم محمد الشابي كتب مقدمتها يقول :
حديث المقبره " وهو حوار فلسفي ، مداره الحياه ، والموت ، والخلود ، والكمال " في ليلة مظلمة ، من ليالي الصيف ، خرج الشاعر بنفسه من القرية الصغيرة النائمة في سفح الجبل ، وفي ذلك السكون الشامل ، والظلام المزكوم ، اخذ يمشي بين اشجار الزيتون المزهة في مسلك منفرد ، ثم اعتلى تلك الربوة الصغيرة ، حيث كانت مدافن القرية وحيث ينام الموتى في صمت الدهور . وبين القبور الخرساء الجاثمه تحت اضواء النجوم ، حيث يتحدث كل شي بجلال الموت وتفاهة الحياة ، جلس الشاعر باقدام متعبة ، ونفس ثائرة ، واجفان قد اذبلتها الاحزان ، فطافت بنفسه الاحلام والافكار والذكريات ، وتقلبت امامه صور الموت وامواج الحياة ،وتتابعت امامه رسوم الايام الكثيرة ، مانام منها في قلب الازل وما لم يزل ينمو في احشاء الابد الكبير ، وجاشت في قلبه هاته العصور والخواطر ، وعجت في صدره عجيج الامواج الثائره ، فالقاها إلى الليل في النشيد التالي : أتفنى ابتسامات تلك الجفون ؟ ** ويخبو توهج تلك الخدود ؟ وتذوي وريدات تلك الشفاه ؟ ** وتهوي إلى الترب تلك النهود ؟ وينهدّ ذاك القوام الرشيق ** وينحل صدرٌ ، بديعّ ، وجيد . وتربدُّ تلك الوجوه الصباح ** وفتنة ذاك الجمال الفريد 1 ويغبرّ فرعٌ كجنح الظلام ** أنيقُ الغدائر ، جعدٌ ، مديد ويصبح في ظلمات القبور ** هباءْ حقيرا ، وتربا ، زهيد وينجاب سحر الغرام القوي ** وسكر الشباب ، الغرير ، السعيد ** ** ** أتطوى سماوات هذا الوجود ؟ ** ويذهب هذا الفضاء البعيد ؟ وتهلك تلك النجوم القدامى ؟ ** ويهرم هذا الزمان العهيد ؟ ويقضي صباح الحياة البديع ؟ ** وليل الوجود ، الرهيب ، العتيد ؟ وشمسٌ توشـّـي رداء الغمام ؟ ** وبدرٌ يضيءُ ، وغيمٌ يجود ؟ وضوءٌ ، يرصـّـع موج الغدير ؟ ** وسحرٌ ، يطرّزُ تلك البرود ؟ وبحرٌ فسيحٌ ، بعيد القرار ** يضجُّ ، ويدوي دويّ الوليد ؟ وريحٌ ، تمرُّ مرور الملاك ** وتخطو إلى الغاب خطو الرعود ؟ وعاصفةٌ من بنات الجحيم ** كأن صداها زئير الاسود تعجُّ ، فتدوي حنايا الجبال ** وتمشي ، فتهوي صخور النجود ؟ وطيرٌ تغني خلال الغصون ، ** وتهتف للفجر بين الورود ؟ وزهرٌ ، ينمـّـق تلك التلال ** وينهل من كل ضوءٍ جديد ؟ ويعبقُ منه اريج الغرام ** ونفح الشباب ، الحييّ ، السعيد ؟ أيسطو على الكُلّ ليلُ الفناء ** ليلهو بهال الموت خلف الوجود .. وينثرها في الفراغ المخيف ** كما تنثر الورد ريحٌ شرود فينضب يمّ الحياة ، الخضم ** ويخمد روح الربيع ، الولود فلا يلثم النور سحر الخدود ** ولا تنبت الارض غضّ الورود؟ ** ** ** كبيرٌ على النفس هذا العفاء ** وصعبٌ على القلب هذا الهمود ! وماذا على القدر المستمرّ ** لو استمرأ الناسُ طعم الخلود ولم يخفروا بالخراب المحيط ** ولم يفجعوا في الحبيب الودود ولم يسلكو للخلود المرجـّــى ** سبيل الردى ، وظلام اللحود فدام الشباب ، وسحر الغرام ، ** وفن الربيع ، ولطف الورود وعاش الورى في سلامٍ ، امين ** وعيشٍ ، غضيرٍ ، رخيٍّ ، رغيد ؟ ولكن هو القدر المستبد ** يلذّ له نوحنا ، كالنشيد وكانت بين القبور روح فيلسوف قديم مجهول فجاءت تزور جسمها الذي اصبح رمة باليه في احشاء التراب ، فاشفقت على الشاعر المسكين من آلامه الروحيه وحيرتة الضامئه ، فارادت ان تعلمه الحكمه وتسكب في قلبه برد اليقين فخاطبته بهذه الابيات : تبرّمتَ بالعيشِ خوفَ الفناء ** ولو دمت حيـّـاسئمت الخلود وعشت على الارض مثل الجبال ** جليلاً ، رهيباً ، غريباً ، وحيد فلم ترتشف من رضابِ الحياة ** ولم تصطبح من رحيق الوجود وما نشوة الحبُّ عند المحبِّ ** وما سحرُ ذاك الربيع الوليد ولم تدرِ ما فتنةُ الكائنات ** وما صرخة القلبِ عند الصدود وماذا يٌرجـِّي ربيب الخلودِ ** من الكون - وهو المقيمُ العهيد -؟ وماذا يودُّ وماذا يخافُ ** من الكونِ -وهو المقيم الابيد- ؟ تأمـّـل .. ، فإن نظام الحياةِ ** نظامٌ ، دقيقٌ ، بديعٌ ، فريد فما حبب العيشَ إلا الفناء ** ولا زانه غير خوف اللحود ولولا شقاءُ الحياةِ الاليمِ ** لما ادرك الناس معنى السعود ومن لم يرُعه قطوب الدياجيرِ ** لم يغتبط بالصباح الجديد وراق حديث الروح الشاعر العائش بين الهواتف والاشباح ، فقال يحاورها : إذا لم يكن من لقاء المنايا ** مناصٌ لمن حلَّ هذا الوجود فأي عناءٍ لهذي الحياةِ ** وهذا الصراعِ ، العنيفِ ، الشديد وذاك الجمال الذي لا يملُّ ** وتلك الاغاني ، وذاك النشيد؟ وهذا الظلامِ ، وذاك الضياء ** وتلك النجومِ ، وهذا الصعيد فنشرب من كلِّ نبعٍ شراباً ** ومنه الرفيع ، ومنه الزهيد ومنه اللذيذُ ، ومنه الكريه ** ومنه المشيد ، ومنه المبيد ونحمل عبئا من الذكرياتِ ** وتلك العهودِ التي لا تعود ونشهد أشكال هذي الوجوهِ ** وفيها الشقيّ ، وفيها السعيد وفيها البديع ، وفيها الشنيع، ** وفيها الوديع ، وفيها العنيد فيصبح منها الوليَُ، الحميم، ** ويصبحُ منها العدوُّ ، الحقود وكلٌُ - اذا ما سألنا الحياةَ- ** غريبٌ لعمري بهذا الوجود أتيناه من عالمٍ لا نراه ** فُرادى ، فما شأنُ هذي الحقود ؟ وما شأن هذا العداءِ العنيف ؟ ** وما شأنُ هذا الإخاءِ الودود ؟ روح الفيلسوف : خُلقنا لنبلغ شأو الكمالِ ** ونصبح أهلا لمجد الخلود وتطهر ارواحنا في الحياة ** بنار الاسى .............. 2 ونكسب من عثراتِ الطريقِ ** قوّى ، لا تُهدّ بدأب الصعود ومجداً ، يكون لنا في الخلود ** أكاليل من رائعات الورود ومر بالمقبره سرب من الارواح ، في طريقها إلى العالم المجهول ، فطارت معها روح الفيلسوف ، وخلفت عالم الشك والكآبه لابنائه البائسين . وظل الشاعر يردد بينه وبين نفسه : ( خلقنا لنبلغ شأو الكمال ** ونصبح أهلا لمجدِ الخلود ) ولكن افكاره الثائرة التي لا تهدأ كانت لا تزال تلح عليه بالاسئله الكثيره المرهقة فقال يناجي روح الفيلسوف التي حسبها ما زالت قريبه منه : ولكن إذا ما لبسنا الخلود ** ونلنا كمال النفوس البعيد فهل لا نملُّ دوام البقاءِ ؟ ** وهل لا نودُّ كمالا جديد وكيف يكونَـنِّ هذا ( الكمالُ ) ** وماذا تُراه؟ وكيف الحدود وإن جمال ( الكمال) ( الطموح) ** ومادام ( فكراً ) يُرى من بعيد فما سِحرهُ إن غدا ( واقعاً) ** يُحـَسُّ ، واصبح شيئا شهيد ؟ وهل ينطفي في النفوس الحنينُ ** وتصبح اشواقنا في خمود ؟ فلا تطمح النفسُ فوق الكمال ** وفوق الخلود لبعض المزيد ؟ إذا لم يزل شوقها في الخلود ** فذاك لعمري شقاءُ الجدود وحربُ ، ضروسُ ، كما قد عهدتُ ** ونصرٌ ، وكسرٌ وهمٌّ مديد وإن زال عنها فذاك الفناءُ ** وإن كان في عرصات الخلود كذلك ناجى الشاعر روح الفيلسوف ، ولكنها كانت إذ ذاك بعيدة عنه في عالم بعيد لا يسمع نجواه ، وكذلك ضاعت اسئله الشاعر في ظلمة الليل الذي لا يسمع ولا يجيب . هكذا كانت فلسفة الشاعر في الحياة وكانه كان يقرأ شئ من مستقبله القريب الا وهو الموت |
All times are GMT. The time now is 03:38 AM. |
Copyright ©2000 - 2024, Futeis.com