منتديات قرية فطيس

منتديات قرية فطيس (http://vb.futeis.com/index.php)
-   المنتدي الأدبي (http://vb.futeis.com/forumdisplay.php?f=13)
-   -   حديث المقبره (http://vb.futeis.com/showthread.php?t=5073)

ابو مجدل 11-13-2013 06:35 PM

حديث المقبره
 
هالقصيده لابو القاسم محمد الشابي كتب مقدمتها يقول :

حديث المقبره

" وهو حوار فلسفي ، مداره الحياه ، والموت ، والخلود ، والكمال "

في ليلة مظلمة ، من ليالي الصيف ، خرج الشاعر بنفسه من القرية الصغيرة النائمة في سفح الجبل ، وفي ذلك السكون الشامل ، والظلام المزكوم ، اخذ يمشي بين اشجار الزيتون المزهة في مسلك منفرد ، ثم اعتلى تلك الربوة الصغيرة ، حيث كانت مدافن القرية وحيث ينام الموتى في صمت الدهور .


وبين القبور الخرساء الجاثمه تحت اضواء النجوم ، حيث يتحدث كل شي بجلال الموت وتفاهة الحياة ، جلس الشاعر باقدام متعبة ، ونفس ثائرة ، واجفان قد اذبلتها الاحزان ، فطافت بنفسه الاحلام والافكار والذكريات ، وتقلبت امامه صور الموت وامواج الحياة ،وتتابعت امامه رسوم الايام الكثيرة ، مانام منها في قلب الازل وما لم يزل ينمو في احشاء الابد الكبير ، وجاشت في قلبه هاته العصور والخواطر ، وعجت في صدره عجيج الامواج الثائره ، فالقاها إلى الليل في النشيد التالي :




أتفنى ابتسامات تلك الجفون ؟ ** ويخبو توهج تلك الخدود ؟

وتذوي وريدات تلك الشفاه ؟ ** وتهوي إلى الترب تلك النهود ؟

وينهدّ ذاك القوام الرشيق ** وينحل صدرٌ ، بديعّ ، وجيد .

وتربدُّ تلك الوجوه الصباح ** وفتنة ذاك الجمال الفريد 1

ويغبرّ فرعٌ كجنح الظلام ** أنيقُ الغدائر ، جعدٌ ، مديد

ويصبح في ظلمات القبور ** هباءْ حقيرا ، وتربا ، زهيد

وينجاب سحر الغرام القوي ** وسكر الشباب ، الغرير ، السعيد


** ** **


أتطوى سماوات هذا الوجود ؟ ** ويذهب هذا الفضاء البعيد ؟

وتهلك تلك النجوم القدامى ؟ ** ويهرم هذا الزمان العهيد ؟

ويقضي صباح الحياة البديع ؟ ** وليل الوجود ، الرهيب ، العتيد ؟

وشمسٌ توشـّـي رداء الغمام ؟ ** وبدرٌ يضيءُ ، وغيمٌ يجود ؟

وضوءٌ ، يرصـّـع موج الغدير ؟ ** وسحرٌ ، يطرّزُ تلك البرود ؟

وبحرٌ فسيحٌ ، بعيد القرار ** يضجُّ ، ويدوي دويّ الوليد ؟

وريحٌ ، تمرُّ مرور الملاك ** وتخطو إلى الغاب خطو الرعود ؟

وعاصفةٌ من بنات الجحيم ** كأن صداها زئير الاسود

تعجُّ ، فتدوي حنايا الجبال ** وتمشي ، فتهوي صخور النجود ؟

وطيرٌ تغني خلال الغصون ، ** وتهتف للفجر بين الورود ؟

وزهرٌ ، ينمـّـق تلك التلال ** وينهل من كل ضوءٍ جديد ؟

ويعبقُ منه اريج الغرام ** ونفح الشباب ، الحييّ ، السعيد ؟

أيسطو على الكُلّ ليلُ الفناء ** ليلهو بهال الموت خلف الوجود ..

وينثرها في الفراغ المخيف ** كما تنثر الورد ريحٌ شرود

فينضب يمّ الحياة ، الخضم ** ويخمد روح الربيع ، الولود

فلا يلثم النور سحر الخدود ** ولا تنبت الارض غضّ الورود؟


** ** **


كبيرٌ على النفس هذا العفاء ** وصعبٌ على القلب هذا الهمود !

وماذا على القدر المستمرّ ** لو استمرأ الناسُ طعم الخلود

ولم يخفروا بالخراب المحيط ** ولم يفجعوا في الحبيب الودود

ولم يسلكو للخلود المرجـّــى ** سبيل الردى ، وظلام اللحود

فدام الشباب ، وسحر الغرام ، ** وفن الربيع ، ولطف الورود

وعاش الورى في سلامٍ ، امين ** وعيشٍ ، غضيرٍ ، رخيٍّ ، رغيد ؟

ولكن هو القدر المستبد ** يلذّ له نوحنا ، كالنشيد



وكانت بين القبور روح فيلسوف قديم مجهول فجاءت تزور جسمها الذي اصبح رمة باليه في احشاء التراب ، فاشفقت على الشاعر المسكين من آلامه الروحيه وحيرتة الضامئه ، فارادت ان تعلمه الحكمه وتسكب في قلبه برد اليقين فخاطبته بهذه الابيات :



تبرّمتَ بالعيشِ خوفَ الفناء ** ولو دمت حيـّـاسئمت الخلود

وعشت على الارض مثل الجبال ** جليلاً ، رهيباً ، غريباً ، وحيد

فلم ترتشف من رضابِ الحياة ** ولم تصطبح من رحيق الوجود

وما نشوة الحبُّ عند المحبِّ ** وما سحرُ ذاك الربيع الوليد

ولم تدرِ ما فتنةُ الكائنات ** وما صرخة القلبِ عند الصدود

وماذا يٌرجـِّي ربيب الخلودِ ** من الكون - وهو المقيمُ العهيد -؟

وماذا يودُّ وماذا يخافُ ** من الكونِ -وهو المقيم الابيد- ؟

تأمـّـل .. ، فإن نظام الحياةِ ** نظامٌ ، دقيقٌ ، بديعٌ ، فريد

فما حبب العيشَ إلا الفناء ** ولا زانه غير خوف اللحود

ولولا شقاءُ الحياةِ الاليمِ ** لما ادرك الناس معنى السعود

ومن لم يرُعه قطوب الدياجيرِ ** لم يغتبط بالصباح الجديد


وراق حديث الروح الشاعر العائش بين الهواتف والاشباح ، فقال يحاورها :


إذا لم يكن من لقاء المنايا ** مناصٌ لمن حلَّ هذا الوجود

فأي عناءٍ لهذي الحياةِ ** وهذا الصراعِ ، العنيفِ ، الشديد

وذاك الجمال الذي لا يملُّ ** وتلك الاغاني ، وذاك النشيد؟

وهذا الظلامِ ، وذاك الضياء ** وتلك النجومِ ، وهذا الصعيد

فنشرب من كلِّ نبعٍ شراباً ** ومنه الرفيع ، ومنه الزهيد

ومنه اللذيذُ ، ومنه الكريه ** ومنه المشيد ، ومنه المبيد

ونحمل عبئا من الذكرياتِ ** وتلك العهودِ التي لا تعود

ونشهد أشكال هذي الوجوهِ ** وفيها الشقيّ ، وفيها السعيد

وفيها البديع ، وفيها الشنيع، ** وفيها الوديع ، وفيها العنيد

فيصبح منها الوليَُ، الحميم، ** ويصبحُ منها العدوُّ ، الحقود

وكلٌُ - اذا ما سألنا الحياةَ- ** غريبٌ لعمري بهذا الوجود

أتيناه من عالمٍ لا نراه ** فُرادى ، فما شأنُ هذي الحقود ؟

وما شأن هذا العداءِ العنيف ؟ ** وما شأنُ هذا الإخاءِ الودود ؟



روح الفيلسوف :

خُلقنا لنبلغ شأو الكمالِ ** ونصبح أهلا لمجد الخلود

وتطهر ارواحنا في الحياة ** بنار الاسى .............. 2

ونكسب من عثراتِ الطريقِ ** قوّى ، لا تُهدّ بدأب الصعود

ومجداً ، يكون لنا في الخلود ** أكاليل من رائعات الورود



ومر بالمقبره سرب من الارواح ، في طريقها إلى العالم المجهول ، فطارت معها روح الفيلسوف ، وخلفت عالم الشك والكآبه لابنائه البائسين . وظل الشاعر يردد بينه وبين نفسه :


( خلقنا لنبلغ شأو الكمال ** ونصبح أهلا لمجدِ الخلود )


ولكن افكاره الثائرة التي لا تهدأ كانت لا تزال تلح عليه بالاسئله الكثيره المرهقة فقال يناجي روح الفيلسوف التي حسبها ما زالت قريبه منه :



ولكن إذا ما لبسنا الخلود ** ونلنا كمال النفوس البعيد

فهل لا نملُّ دوام البقاءِ ؟ ** وهل لا نودُّ كمالا جديد

وكيف يكونَـنِّ هذا ( الكمالُ ) ** وماذا تُراه؟ وكيف الحدود

وإن جمال ( الكمال) ( الطموح) ** ومادام ( فكراً ) يُرى من بعيد

فما سِحرهُ إن غدا ( واقعاً) ** يُحـَسُّ ، واصبح شيئا شهيد ؟

وهل ينطفي في النفوس الحنينُ ** وتصبح اشواقنا في خمود ؟

فلا تطمح النفسُ فوق الكمال ** وفوق الخلود لبعض المزيد ؟

إذا لم يزل شوقها في الخلود ** فذاك لعمري شقاءُ الجدود

وحربُ ، ضروسُ ، كما قد عهدتُ ** ونصرٌ ، وكسرٌ وهمٌّ مديد

وإن زال عنها فذاك الفناءُ ** وإن كان في عرصات الخلود



كذلك ناجى الشاعر روح الفيلسوف ، ولكنها كانت إذ ذاك بعيدة عنه في عالم بعيد لا يسمع نجواه ، وكذلك ضاعت اسئله الشاعر في ظلمة الليل الذي لا يسمع ولا يجيب .
هكذا كانت فلسفة الشاعر في الحياة وكانه كان يقرأ شئ من مستقبله القريب الا وهو الموت


All times are GMT. The time now is 10:21 PM.

Copyright ©2000 - 2024, Futeis.com